بقلم: أسامة غريب
فى بعض الأحيان تسمع هذا الصديق الناصرى أو ذاك يقول: أما زلتم تكتبون عن عبدالناصر وتنتقدونه بعد مرور ما يقرب من خمسين عاماً على وفاته؟ ألا تنسون الرجل وتتركونه فى قبره دون أن تنبشوا سيرته كل فترة وأخرى بالنقد والتحليل والتدقيق؟. طبعاً هذا الكلام يوجه لمن ينتقد الزعيم ويحمّله نصيبه من الخيبة التى نعانى ويلاتها حتى الآن.. أما الذين يستحضرون سيرة الزعيم على طريقة «وفى الليلة الظلماء يفتقد البدر» والذين يذكرون بالخير نضاله ضد الاستعمار وإسهامه فى حركة عدم الانحياز وعداءه لإسرائيل، فهؤلاء مسموح لهم أن يكتبوا ويتكلموا دون أن يسمعوا من يقول لهم: أما آن الأوان أن تنسوا الرجل وتتركوه فى حاله؟!
ليس عندى شك فى أن عبدالناصر كان محباً للفقراء، وقد هاله الفقر المدقع الذى رأى أغلبية المصريين فى الريف والحضر يعيشون فيه، لكن تفكيره ألهمه أن القضاء على الفقر أو تحجيمه لا يمكن أن يتم فى وجود الحريات السياسية، أو فى ظل دولة تحترم القانون وتعامل الناس على ضوء نصوصه؟! كانت نظرة الرجل للحريات متأثرة ببعض الممارسات الحزبية التى شهدها فى العصر الملكى، وقد ظن أن حرية التعبير والعمل الحزبى والنقابى والنشاط الطلابى الحر كلها من معوقات التقدم والإنتاج، وكان يعتقد أن المصريين قد عاشوا فى ظل تلك الحالة الليبرالية دون أن تنجح الديمقراطية فى إطعام الفقراء أو شراء أحذية لهم!. إننا نقرأ دائماً عن حالة السجناء السياسيين قبل 52 وكيف كانت المعاملة طيبة والطعام يأتيهم أحياناً من جروبى.. أظن عبدالناصر كان يدرك أن هذه الرفاهية لم يكن يتمتع بها الفقراء من السجناء، سياسيين أو جنائيين، وأنها كانت مقصورة على البكوات والأفندية، لهذا فإنه وهو يعصف بالحريات كان مطمئن البال مرتاح الضمير إلى أن أحباءه الفقراء ليسوا المقصودين، وهم على أى حال كانوا يُضربون بالجزمة فى السابق ولن يضيرهم كثيراً أن تستمر نفس الجزمة فى ضربهم، بينما البطون هذه المرة ممتلئة وشبعانة! أعتقد بصدق أن الفكرة السيئة عن الديمقراطية التى اعتنقها عبدالناصر كان يكمن فيها مقتله ومقتل مشروعه الذى كان أوهى من بيت العنكبوت.
لقد رأى أن القدر الموجود من الحرية لم يكن للفقراء نصيب فيه، لكنه كان للأسياد، وقد ظن أن لقمة العيش تغنى البؤساء عن التفكير فى الحرية والكرامة، بل إنه كان يردد دائماً أن لقمة العيش هى الحرية وهى الكرامة، وقد يكون هذا صحيحاً جزئياً أو صحيحاً إلى حين، لكن هذا الحين لا يجب أن يطول حتى يقضى نقص الحرية على لقمة العيش، وهو ما حدث لاحقاً بعد أن غاب عبدالناصر. ولعل الذين يندهشون من تزوير الانتخابات والاستفتاءات التى كان ناصر مؤهلاً لاكتساحها لو أنها جرت بنزاهة يفهمون مقدار الخوف والعداء الذى كان يكنه للديمقراطية.