ماذا حدث للثقافة فى مصر

ماذا حدث للثقافة فى مصر؟

ماذا حدث للثقافة فى مصر؟

 صوت الإمارات -

ماذا حدث للثقافة فى مصر

جلال أمين
بقلم: جلال أمين

 فى سنة 1938 (أى منذ ثمانين عاما) نشر الدكتور طه حسين كتابا مهما تحت عنوان «مستقبل الثقافة فى مصر»، أحدث دويا واسعا، وظل فترة طويلة يشغل الناس، وعده مؤرخو الثقافة المصرية والعربية علامة مهمة فى تاريخنا الثقافي، يتكرر ذكره واقتطافه المرة بعد المرة، خاصة دعوته إلى الأخذ من الحضارة الغربية بعبارات مدهشة فى حسمها وعموميتها، إذ دعا إلى أن «نسير مسيرة الأوربيين ونسلك طريقهم»، وإلى أن نقبل من هذه الحضارة «خيرها وشرها، وحلوها ومرّها، وما يُحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب».

قامت ثورة 23 يوليو 1952 بعد ظهور كتاب طه حسين بأربعة عشر عاما فعزلت الملك وأعلنت الجمهورية، واتخذت اجراءات ثورية لتغيير النظام الاجتماعي، مما جعلها تستحق وصف الثورة، كما رفعت من تطلعات المثقفين المصريين، وأثارت آمالا واسعة فى إحراز تقدم فى مختلف المجالات: السياسية والاجتماعية والثقافية.

كان اللحاق بالأمم المتقدمة أحد الأهداف التى تبنتها ثورة 1952، فى مختلف المجالات، ومن ثم لم يكن غريبا أن يتخذ رجل مثل طه حسين وزملائه المتحمسين للحضارة الغربية، موقف التأييد والرضا من الثورة، على الأقل فى سنواتها الأولي. فعلى الرغم من كل الشعارات التى بعد الثورة فى السنين العشرين الأولى من حياتها، حتى وفاة طه حسين فى 1973، من معاداة الاستعمار فى كل صوره، لم يصدر من قادة الثورة أى شيء يدل على معاداتهم للحضارة الغربية أو رفضهم لمنجزاتها.

خطر لى بعد هذه الفترة الطويلة على ظهور كتاب طه حسين أن أتساءل عما حدث لدعوة طه حسين إلى التغريب الشامل، فإذا بى أجد أن ما حدث فاق أى شيء كان يتصوره ويدعو إليه. لقد أتم طه حسين كتابه قبل نشوب الحرب العالمية الثانية، أى قبل قدوم ما يمكن أن يسمى «العصر الأمريكي»، بكل ما أحدثه هذا العصر من تغيرات ثقافية فى العالم كله. وكان طه حسين يكتب فى ظل سيادة الثقافة الأوروبية: الاستعمار الأوروبى كان سائدا ولم يحل محله بعد الاستعمار الأمريكى بسماته الجديدة والغريبة. والحضارة الغربية كانت تحمل سمات الثقافة الأوروبية لا الأمريكية. فما الذى كان يمكن أن تتوقعه من مثقف مصرى كبير، شديد التعلق بالحضارة الأوروبية، ويعتقد أن أفضل ما يمكن أن يحدث للثقافة فى مصر هو أن تحذو خطوات أوروبا بالضبط، وتقتدى بكل ما تفعل، «حلوه ومرّه، ما نحب منه وما نكره». كان طه حسين قد ذاق «المرّ الأوروبي»، ولكنه لم يكن قد ذاق بعد «المرّ الأمريكي»، فماذا عساه أن يقول لو ذاق هذا المرّ مثلنا؟

لقد لعب قدوم العصر الأمريكى بثقافات العالم الثالث الأخري، كما تلعب العاصفة فى البحر بالثقافة المصرية مثلما لعب بالقوارب الصغيرة. جاء العصر الأمريكى بالانقلابات العسكرية (التى تحوّل بعضها إلى ثورات، أو سُميت كذلك)، ولكن سواء كان ما حدث انقلابا أو ثورة، فقد فرض قيودا شديدة على الحريات التى كانت متاحة قبله. أخذ الانتاج الثقافى فى مصر بعد الثورة يعبر عن مصالح طبقات جديدة كانت محرومة من التعبير عن نفسها، عشرات السنين (بل قرونا عديدة)، وأطلق عقال كثير من المواهب التى كانت تتوق إلى التعبير عن هذه الطبقات. ولكن هذا لم يكن بلا ثمن، وإن كان ثمنا لابد من توقعه فى ظل نظام اجتماعى جديد، ونظام سياسى لا يعد نفسه ملزما بإتباع الطقوس الديمقراطية المعهودة.

كان من بين ما دفع ثمنا عاليا لهذا التغيير الاجتماعى اللغة العربية. قد يبدو لنا ما حدث للغة العربية فى مصر خلال الأعوام الخمسين أو الستين عاما الماضية كأنه كان من الممكن تجنبه ولكن الحقيقة أنه كان تطورا شبه حتمي، إذ كان تجنبه يحتاج إلى ما يشبه المعجزة. كيف كان لنا أن نتصور تطبيقا شاملا لمجانية التعليم، والتوسع المفاجئ فى التعليم، فى جميع المدن والقري، مما يتطلب اكتظاظ عشرات التلاميذ فى الحجرة الواحدة، والاستعانة بمدرسين لم يحظوا هم أنفسهم بالدرجة اللازمة من التعليم أو الثقافة، دون أن يحدث تساهل شديد فى تطبيق قواعد اللغة، خاصة أن الأحوال السائدة فى خارج المدرسة كانت تساعد على هذا التساهل؟

كان المسئولون السياسيون الجدد، هم أنفسهم، ذوى ثقافة محدودة، ويعلقون أهمية على النتائج العملية أكثر مما يعلقون على اللغة المستخدمة، التى أصبحت من قبيل «الشكل» الذى تجوز التضحية به فى سبيل «المضمون». كذلك وجد هؤلاء المسئولون الجدد أنفسهم فى حاجة إلى وسائل للدعاية لنظامهم الجديد، لم يشعر المسئولون القدامى بالحاجة إلى مثلها. لكن الدعاية المطلوبة كانت تتطلب بدورها الوصول إلى الجاهل والمتعلم ونصف المتعلم. المهم هو تحقيق الأثر النفسى المنشود، بصرف النظر عن الوسيلة المستخدمة لتحقيقه. والتساهل فى قواعد اللغة ثمن هين، فى نظر المسئولين، فى سبيل حماية الثورة أو النظام.

ليس هذا فحسب، بل ساد فى ذلك الوقت ما سمى «أفضلية أهل الثقة على أهل الخبرة». وهو شعار يتفق تماما مع التضحية بالوسيلة فى سبيل الغاية المنشودة. ومن بين الوسائل المضحى بها، ليس فقط الالتزام بقواعد اللغة الصحيحة، بل استخدام النوع الأفضل من المثقفين، الذين قد يكونون أفضل حقا، وأكثر خبرة، لكنهم لا يحوزون القدر الكافى من «الثقة»، أى لا يمكن الاطمئنان إليهم كل الاطمئنان فى تحقيق أهداف الثورة «أو أهداف النظام».

استمر كل هذا ما يقرب من عشرين عاما، أى طوال العقدين التاليين لثورة 1952، توفى فى نهايتهما طه حسين دون أن نقرأ له تقييما صريحا لما حدث خلالهما للثقافة المصرية. ولكنى لا أظن أن طه حسين (لو كان قد امتد به العمر)، كان يتصور ما حدث بالفعل للثقافة المصرية فى أعقاب ثورة وطنية علقنا جميعا عليها آمالا كبارا.

>>>

كان من أهم نتائج الحرب العالمية الثانية أن ورثت الولايات المتحدة دول أوروبا الاستعمارية، وأهمها بريطانيا وفرنسا، (مع استثناءات قليلة حل فيها الاتحاد السوفيتى محل هذه الدول الاستعمارية القديمة، لكنه فشل فى الاحتفاظ بها بعد نهاية الثمانينيات). لم تسدل الحرب العالمية الثانية إذن، الستار على ظاهرة الاستعمار، بل استبدلت فقط صورا جديدة للاستعمار بصورته القديمة. كيف يمكن أن نتوقع غير ذلك فى عالم أتسم دائما بسيطرة القوى على الضعيف؟ كان لابد بالطبع أن يتغير أسلوب السيطرة، ونوع الخطاب المستخدم لتبريرها. أما واقعة السيطرة والقهر نفسها، فتظل مستمرة حتى يجد المقهورون طريقة للإفلات. لقد كادت كلمة «الاستعمار» تختفى اختفاءً تاماً بعد أن كنا لا نكف عن استخدامها فى صبانا ومطلع شبابنا، ولكن اختفاء كلمة الاستعمار شيء، وانتهاء الاستعمار نفسه شيء آخر.

نقلا عن الاهرام القاهرية

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

 

المصدر :

العربية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ماذا حدث للثقافة فى مصر ماذا حدث للثقافة فى مصر



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 22:24 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 00:23 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 08:23 2020 الأربعاء ,01 تموز / يوليو

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 20:55 2018 الخميس ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

وزير الهجرة الكندي يؤكد أن بلاده بحاجة ماسة للمهاجرين

GMT 08:24 2016 الأحد ,28 شباط / فبراير

3 وجهات سياحيّة لملاقاة الدببة

GMT 03:37 2015 الإثنين ,08 حزيران / يونيو

عسر القراءة نتيجة سوء تواصل بين منطقتين في الدماغ

GMT 22:45 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

استمتع بتجربة مُميزة داخل فندق الثلج الكندي

GMT 02:49 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

ليال عبود تعلن عن مقاضاتها لأبو طلال وتلفزيون الجديد

GMT 04:52 2019 الخميس ,03 كانون الثاني / يناير

"هيئة الكتاب" تحدد خطوط السرفيس المتجهة للمعرض

GMT 04:47 2018 الأربعاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

شادي يفوز بكأس بطولة الاتحاد لقفز الحواجز

GMT 18:39 2018 الأحد ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

أجمل الأماكن حول العالم للاستمتاع بشهر العسل

GMT 17:16 2018 الأربعاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

وعد البحري تؤكّد استعدادها لطرح 5 أغاني خليجية قريبًا

GMT 05:14 2018 الخميس ,04 تشرين الأول / أكتوبر

إيرباص A321neo تتأهب لتشغيل رحلات بعيدة المدى
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates