بقلم - حسن البطل
للأُنثى عطر الصباح وعطر المساء، وللأرض العطشى عطرها الفوّاح بعد المطرة الأولى. سبعة أيام لا غير بين عطر المطرة الأولى، وبزغ من الأرض العطشى زغب العشب الأخضر، في طول اصبع الطفل الوليد، أو في طول سلامة اصبع الرجل الكبير.
قاعد مع صاحبي في ركني الأثير: منصة قبالة مركز القطان نشرب قهوة مثلّجة. اعتدنا تلك القعدة في فصول العام الأربعة. نجلس صيفاً على حجر في فيء صنوبرة كبيرة كأنها الجدّة، تحفّ بها صنوبرات صغيرة كأنها أولادها، أو تحفّ بها صنوبرات وليدة قزمة كأنها أحفادها مثل: باسم الجد والابن والحفيد.
زخّات مطر الخريف والشتاء وآخر الربيع، ويلبس زغب العشب ثوب بساط زهور برية لها أسماء أجهلها، نجمعها في باقة إلى بيتنا، أو جمعها صاحبي مرّة باقة (13 من الزهور من مساحة مترين لا أكثر)، وقال: سنجرب أن نغليها ونشرب منقوعها، وفعلنا هذا فعلاً. جرّب قبلي وتشجعت بعده!
كم طول المسافة بين تمثال نيلسون مانديلا ومركز القطّان؟ إنه أحد شوارع المدينة الأثير. إمّا ننزل عند التمثال ونركن السيارة، ونقطع المسافة على أقدامنا، أو نركن السيارة قبالة مركز القطّان، وأترك صاحبي يدخّن سيكارته الرابعة، وأعود هرولة أو بخطى سريعةً إلى ساحة مانديلا، حيث يقلّني في سيارته. لا بدّ لي من تحريك مفاصلي.
زغب العشب، بعد أسبوع من المطرة الأولى، تعقبه مطرات شهر، ليشبّ الزغب ما شاء من نباتات الربيع، فنذهب في جولة إلى نبع عين قينيا، الذي يصبّ ضعيفاً كأنه خيط ماء رفيع، ويتدفّق في الربيع. هذا أوان الخبيّزة، أو «خبز العرب» كما يستصغر اليهود في القول. قط، لا نشتريه من دكاكين الخضار والفواكه، بل نجمعه من أرضه، دون سيقانه الطويلة في دكاكين الخضار.
للأُنثى الجميلة عطر الصباح وعطر المساء، وللأرض عطر فوّاح بعد المطرة الأولى فقط، ولها بعد زخّات الشتاء أن تخلع ثوباً خشناً، وترتدي ثوباً أخضر مطرّزاً بالزهور، وبعروق نباتات «أرض بعل»، ترتديه الأرض في فصلي الشتاء والربيع، وترتديه النساء الفلّاحات ثوباً في كل فصول العام!
من طرف ضاحية الطيرة، تستقبلك المدينة بلافتة «وين.. عَ رام الله»، ومن طرف آخر يودّعك مبنى رام الله الترفيهي، وتهبط منه إلى اكتشاف جديد، هو «حديقة رام الله»، التي افتتحت في أيلول، وتستحق أن تصير حديقة وطنية، أو «ناشيونال بارك» تفوق سعةً وجمالاً «حديقة ردّانا» سوى أن مقاصفها الكثيرة في انتظار تلزيمها لمن يستأجرها، لكن حدائق الأطفال تعمل، وكذا مناقل لا حصر لها للشواء.. وسعر الدخول (شيكلان) فقط.
اكتشفناها في الطريق الجميل من آخر حيّ الطيرة إلى المستشفى الاستشاري وضاحية الريحان، ولكن مع غصّة في الحلق، لأن الطريق مضاء ليلاً بكهرباء من الشمس، كنتُ أحلم أن يضيء الشارع من المدينة إلى بيرزيت على مسافة عشرات الأمتار، قام لصوص أوغاد بسرقة ألواح توليد الكهرباء من الشمس، كما سبق وفعلوا على مسافة مئات الأمتار من طريق «وادي النار» المؤدي إلى مدينة السيد المسيح، بيت لحم.
على مسافةٍ قصيرةٍ من أطراف حيّ الطيرة شقّوا شارعاً فسيحاً، وعلى مسافةٍ أطول من المجمع الترفيهي شقّوا شارعاً فسيحاً وجميلاً. هل هذا وذاك بداية الطريق الدائري، الذي سيخفف أزمات السير في مدينة رام الله؟ أو أن ذلك الطريق القطري الجميل سوف تحفّ به المباني، التي صارت تحفّ بالطريق من بيتونيا إلى عين عريك، الذي هو جزء من طريق قديم كان يسمى طريق يافا؟
كل ما أرجوه أن يبقى طريق «وادي القف»، يرتدي ثوبه الفطري الجميل، الأخضر والمشجّر، دون أن تحفّ جانبيه عمارات متعددة الطوابق.
ذات مشوار، قادني صاحبي إلى مكان يعرفه وكنت أجهله، وهو يسمى «مركز فلسطين الترفيهي»، على طرف قرية كفر نعمة، يديره وبناه سجين سابق، وفيه ثلاثة مسابح للأولاد، وللعائلات، وللرجال.. مع فندق من سبع طبقات وأربع نجوم، ويعمل في المركز 120 عاملاً.
بنى المصريون أهرامات، ماذا بنى آباء وأجداد الفلسطينيين في بلاد بعل ذات الفصول الأربعة؟ بنوا أحجاراً كسلاسل تفوق أهرامات مصر، لكن سلاسل على منحدرات الأرض في المدينة، وعلى سفوح التلال في ظاهرها.
في المدينة صاروا يبنون عمارات في مكان السناسل الركيكة والقديمة، لكن في ضواحيها وضواحي قراها، عادوا إلى بناء سناسل متينة لجعل سفوح التلال تشبه حدائق معلّقة وخضراء في كل فصول العام.. «خضراء يا أرض روحي» في كل الفصول.