بقلم : عائشة سلطان
منذ مرضها الأخير، شفاها الله وعافاها، لم أسمع من أمي شيئاً من حكاياتها القديمة، لم تحضر في تفاصيل المكان صور أحياء ديرة القديمة، وأسماء العائلات والرجال الأفاضل والنساء القويات اللواتي كن إذا اقتضى الأمر يقفن بحزم لا يلين أمام أعتى الرجال وأعتى الظروف، ويصدعن بكلمتهن دون تردد!
اعتدنا أن تحكي لنا أمي، بذاكرة مضيئة ووعي عميق، حكاياتها كفلّاح يودع بذوره قلب التربة، لذلك فإنها تتأكد من حسن إصغائنا لها:
إخوتي وأنا، لا توجه تنبيهات كتلك التي يوجهها المعلمون؛ فهي لا تلقننا درساً ولا تحفظّنا قصيدة، لكنها تستأمننا أسرار ذاكرتها، تضع في قاع قلوبنا صور أهلها وأصحابها والرجال الذين سمعت قصصهم وشهدت مواقفهم، والنساء اللواتي تركن أثراً فيها ورحلن ولم ترحل أرواحهن ووصاياهن! لذلك فحين نستغرب أو نتململ، لأنها تعيد الحكاية ذاتها المرة تلو الأخرى، تقول:
أريد أن أتأكد تماماً أنني كتبت في قلوبكم ذاكرتي حتى آخر سطر، فهؤلاء الذين أُقلّب أيامهم معكم وأنبش أصواتهم وأردد كلماتهم وأفكارهم وما فعلوا وما قالوا، سيرافقونكم كما رافقوني، وستحتاجون إليهم كما احتجت إليهم في مقبل أيامكم!
في الحقيقة، لا تحكي أمي حكاياتها على طريقة تمضية الوقت وملء الفراغ، إنها لا تؤمن بأن الوقت فراغ علينا ملؤه بالكلام، لكنها تؤمن بأن بين الإنسان ونفسه وما بينه وبين الآخرين مسافات عليه أن يتأملها بروية، وأن يعيشها بفهم، وبينه وبين الآخرين أفكار وتجارب ومواقف تحتاج إلى أن نعلنها بصوت عالٍ، كي يستفيد الجميع ويتعلموا؛ فواحدة من طرق نقل المعرفة هي الكلام بصوت مسموع ومقروء معاً.
فألقِ سلامك واكتب أفكارك، وامض إلى خلودك الحقيقي!
إن من مروا ومن رحلوا ومن راحوا لا يصيرون أحجاراً، ولا هواء ولا أوراقاً صفراء، إنهم نحن في ختام الحكاية وفي نهاية اليوم، فما نحن؟ ومن نحن؟
ألسنا بعضاً من تفرد كينونتنا وجزءاً من أمهاتنا وآبائنا، وشيئاً من أجدادنا وقليلاً من التاريخ وخليطاً من رائحة المكان والجغرافيا؟! ولذلك فما يمكن أن يدفع إلى التفكير والخوف ليس تكرار أمهاتنا وآبائنا لحكايات الذاكرة، ولكن ذلك السؤال الذي لا يغادرني: ترى ماذا سنترك نحن لأبنائنا؟ ما الذي يحكيه جيلنا لأطفاله وأحفاده؟ ماذا يكرر عليهم وماذا يستأمنهم؟ هذا إذا كنا نجلس إليهم وكان لدينا وقت للحكي، ورغبة في القص وحرص على حفظ الذاكرة!
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن البيان