عائشة سلطان
حكاية أول كل شيء في حياتنا هي حكايتنا وحكاية تكون شخصياتنا وعلاقاتنا ووعينا بما حولنا، حكاية أول مدرسة التحقنا بها تعني أول خطواتنا باتجاه الخارج، باتجاه العالم، باتجاه الآخر، باتجاه التدافع والتزاحم والمعرفة والاكتشاف، والصدمات والصداقات، إنها تاريخ انقطاعنا عن عالم أمهاتنا، عن المشيمة، عن عالم الحماية والأمان والدخول في المعترك، حكاية أول مدرسة ليست مسألة (سين سؤال) من صحفي و(جيم جواب) منا هكذا ببساطة، إنه استذكار لعمر طويل مر بنا، وعلينا، وفي قلوبنا ورسم شخصيتنا ووجداننا، في النهاية رسمنا بالطريقة والتفكير والمآل الذي أصبحتا عليه، والذي جعل صحفيا لطيفا يرفع سماعة هاتف مكتبه ليسألنا ببساطة عن ذكريات أول مدرسة التحقنا بها، إنه سؤال النظر من خلف السور الوهمي للعمر والذي يفصل بين خطوة تلك الطفلة التي نهضت صباحا لتودع كل ما كان ولتبدأ كل ما سيكون انطلاقا من أول مدرسة سيعلمونها فيها القراءة والكتابة والاستعداد للمستقبل !
حكاية أول كتاب قرأناه، ما كانت لتكون لو لم تسبقها حكاية المدرسة، فنكتشف أنه ما كنا لنكتب لو أننا لم نقرأ، نكتشف أنه في البدء كانت القراءة، وأن (اقرأ) هو الفعل والفاعل معا ودوما، وأن القاف في (اقرأ) حرف صوتي يشبه الضجيج والقرقعة، لذلك فحين تتمكن منك القراءة يصير عيبا أن تتحدث عنها كهواية، تلك كلمة تشبه ألعاب الأطفال، تشابه مراهقات الصبية حين يشاكسون بنتا حلوة لبعض الوقت لفرط ما تمتلئ به قلوبهم من طيش الحياة، القراءة مقارعة الوقت والنفس والعقل والقلب والناس الذين حولك، حين تقرأ فإنك لا تمارس هواية، إنك تبني شخصا مختلفا عما كنته قبل القراءة هذا أولا، وثانيا فحين تقرأ تتخذ قرارا ببدء عملية بناء وتكوين ونحت طويلة ومضنية لنفسك، ستجعلك مختلفا بشكل ستعرفه في كل وقت وأنت تمضي في الحياة.
أول كتاب قرأته كان يحكي سيرة القائد صلاح الدين الأيوبي، لم يكن اختياري للكتاب قائما على الموضوع، وإلا لما اخترت وأنا الطفلة التي لم تتجاوز العاشرة من عمرها أن أشتري كتاباً عن صلاح الدين، فأنا لا أعرف صلاح الدين أصلاً في ذلك العمر، لكنني كنت أعرف تماما أن هناك كتابا وأن علي أن اشتريه، كتاب لم يوزعوه علينا في المدرسة ولن نقدم فيه امتحانا ولن ندرسه كل يوم، كتاب صغير لامع على غلافه رسومات مختلفة، كتاب نحن من اخترناه وسعينا لشرائه، إنه كتاب يخصنا ونمتلكه ونقرأه ساعة نشاء لأننا نريد أن نقرأه، ذلك من وجهة نظري أول الوعي بالكتاب والقراءة، وأولى علامات الوعي تتكون مع أولى خطوات الخروج لشرائه، وعد النقود مرارا وتكرارا للتأكد من أنها تكفي، وأن جدتي لن تغير رأيها وأنها ستذهب معي فعلا، وأن سائق سيارة الأجرة (الباتاني) سيعرف الطريق لميدان جمال عبدالناصر في منطقة ديرة، حيث تقع مكتبة (دار الحكمة) بالقرب من البنك البريطاني في تلك الأيام !
ألم أقل لكم إنها حكايات أعمارنا وطفولتنا والتغيرات التي طالت مدينتنا وذاكرة جداتنا وبيوتنا.