ناصر الظاهري
كان رجلاً «هاب ريح» كما يطلق على الرجال ذوي الفزعة، الملبين والمتواجدين عند الطلب وعند «حزتها» أي الشدائد، لا يقام عرس إلا وتجده مساهماً فيه، ومعاوناً، يحطب مع أهل المعرس، ويسخّر سيارته للتنقلات يوم الفرح، تظل «البنديرة» ترفرف على سيارته حتى صباح السبت وانقضاء الفرح، يجول في العرضة والعيالة، ويطلق رصاص محزمه حينما كان الرصاص مسموحاً به في الأعراس، ومثلما الفرح كان الرجل متواجداً في حزن الناس، فإن توفي شخص تجده من المشيعين الدافنين، ويلزم بيت أهل المصاب، فربما يحتاجون لشيء، تجده في ختان الأولاد موجوداً، في طلوع وأسبوع الأطفال موجوداً، في الولادات موجوداً، في الحرائق والأمطار والنزاعات موجوداً، ليلة شوي عيد الأضحى موجوداً، في وداع واستقبال الحجاج موجوداً، دائماً كان موجوداً، ولم يكن يريد أن يستفقده الناس في المواقف.
مرّة.. كان الرجل «هاب الريح» منطلقاً بسيارته، فرأى ألسنة نار ولهب ترتفع في منطقة سكنية قريبة، وكاد أن يترك ما في يديه ويساهم بأقصى سرعة في إخماد النار، ولم يتأكد فعلياً من الاشتعال، فأسرع بإخبار المطافئ عن وجود ذلك الحريق، وخوفه من أن يصل للبيوت، ذهب مسرعاً وأنجز عمله بعد أن وصف للمطافئ مكان الحريق، وعاد ليساعد فوجد سيارات المطافئ، لكنه لم يجد الحريق غير حريق الإطارات وبعض المخلفات قام به أطفال مشاغبون، فتوقف وجلس يتحادث معهم، فأخبرهم عن ظنه بالحريق وخوفه على البيوت، فأبلغهم بسرعة لتفادي الخسائر في الحال والمال، لكن ظنه كان خاطئاً، يومها.. لم يغفروا له هذا الخطأ، وسُجلّ ضده بلاغ بإزعاج السلطات، وتحريك سيارات الإطفاء، ووقعّوه على أوراق ألا يعود لمثل هذا العمل، ولولا وجود ناس من أهل البلد يعرفونه، ويعرفون نخوته وفزعته، ويتذكرون أيامه وشبابه الذي أمضاه في خدمة الناس وإعانتهم ومساعدتهم، لدخل في دهاليز جديدة وتعقيدات إدارية طويلة لن تخرجه منها نخوته ولا حماسته ولا مسارعته لفعل الخير، ذلك اليوم عاد «هاب الريح» منكسر الخاطر، منقبض القلب، لأن أشياء كثيرة ماتت ذلك اليوم في صدره.
لا أدري لماذا هذا الحديث اليوم.. مثل هؤلاء كان مجتمعنا القديم مليئاً بهم، وكانوا هم زينته، اليوم.. هم في تلاش، وغياب في المجتمع الذي كبر وتغير وتحول، أحياناً نتحسر على أيامهم الجميلة، وأحياناً أخرى نقول: اليوم غير يومهم والوقت ليس وقتهم، جزاهم الله عن أشيائهم الجميلة.. أشياء الناس الأولين!