بقلم : ناصر الظاهري
للمدن خصوصيات، وسر خصوصياتها أسواقها العتيقة والشهيرة، لأنها رئة المدينة التي تتنفس بها، وملتقى للخصماء والغرباء، الطيبين والأشرار، المحسنين واللصوص، النساء المستورات وغير المستورات، شعراء وفنانين، وسكيرين، نشالين، تجار قدامى ما زالوا يعتقدون بنزاهة التاجر وأمانته ورزقه الحلال، وتجار مدلسين يبخسون الكيل والميزان ويغشون، الأسواق هي المدن الحقيقية، بكل ما ينغل فيها، يمكنك أن تسمع كل الأخبار الصادرة والواردة، ولأنها كذلك كانت المدن قديماً تبنى حول الأسواق دائماً حتى يصبح السوق هو المركز الذي يمكن أن ترصد ما في المدينة، وما يعتمل به صدرها، هي مقياس للرأي، لذا كثر فيها العسس والعيون والراصدون والمحتسبون.
اليوم لا يمكن أن تزور صنعاء، ولا تذهب إلى سوق الملح مثلاً، تزور دمشق ولا تمر بسوق الحميدية، تكون في الدار البيضاء ولا ترى سوق باب مراكش أو الحبوس أو درب السلطان، تكون في حلب ولا تشتهي أن تمر بسوق العزيزية أو في مراكش ولا تتجول في ساحة الفنا أو تذهب للقاهرة من دون أن تذهب لسوق خان الخليلي، تكون في تونس ولا تجرك قدماك للسوق العتيق الداخلي أو تكون في بغداد ولا تخطف نفسك لسوق «الشورجة».
بعض هذه الأسواق حافظت على قدمها وسر المهن التي فيها من تجار وصناع وحرفيين مهرة، مختصين في الذهب والفضة والنحاس والخشب والسجاد والبز والبهارات والأعشاب الطبية، أسر كانت تتوارث مهن الأجداد والآباء، لها أسماء رنّانة كسبتها من نوع التجارة التي مارستها طوال سنين طويلة، بعض هذه الأسواق حوطتها البنايات، وضاقت بالإسمنت، وهجرها زبائنها ومرتادوها، وغدت مزدانة بالـ «بوتيكات» والبضائع الصينية المقلدة، وأصبحت أثراً بعد عين.
بعض الأسواق حلت مكانها شوارع كبرى وعريقة، وأصبح اسم الشارع أهم من اسم السوق مثل شارع الشانزليزيه أو أكسفورد أو «كراند فيا» في مدريد أو «فينيتو وناسيونالي» في روما، وغدت محلات مشهورة في الشارع المشهور، وغاب ملمح السوق القديم المكتظ بالناس وبالتجار الصغار المبسطين ببضائعهم أو بعض ممتلكاتهم التي يبيعونها لحاجة أو استغناء، مثل هذه الأسواق المفتوحة عادة ما تأخذ اسمها من اليوم التي تفتح فيه كسوق الأربعاء أو سوق الجمعة أو سوق الأحد، و«دوشينبه» عاصمة طاجيكستان اتخذت اسمها من سوق الاثنين، في تلك الأسواق تجد ما لا يخطر لك على بال، وخاصة العاديات و«الانتيكات» والأشياء القديمة الثمينة، من أشهر هذه الأسواق سوق «الراسترو» في مدريد وسوق «البرغوث» في بيروت وسوق «نوتينغ هيل» في لندن، وفي فرنسا والدول الأوروبية كثيرة تلك الأسواق المتنقلة.
ابدأ دائماً بالسوق لتعرف المدينة.. حكمة تكاد تكون قديمة، وتصلح لكل الأزمان والأماكن.. لكن في مدننا الحديثة ضاع السوق القديم، وليس للزائر من نصيحة لكي يعرف المدينة على حقيقتها إلا أن يبدأ بـ «المول»!
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن الاتحاد