بقلم - ناصر الظاهري
قليلون.. من يجعلون قلبك يتقافز في قفصك الصدري كحمامة بيضاء، تريد أن تطير، ولا تعرف مدى لجناحيها، ولا تبصر إلا عينيها العاشقتين للضوء ورائحة الغمام.
قليلون.. من يجعلون ضوع حِنّا يديهم، كعطايا الدرويش الفاني المتفاني التي يَصرّها سراً، ويهديها همساً، فلا تقدر إلا أن تتبع بركة عصاه، وتتبع مسك تسابيحه الفجرية.
قليلون.. من يمسكك هدب عيونهم الحانية، فلا يجعلك تمر في الطرقات، ولا تتجاوز المنعطفات هكذا سراعاً دون أن تتوقف.
قليلون.. من يتبعك طيفهم بلون الورد في أحلامك، وعطر وسائدك، وحين تستيقظ تتلمس فراشك، ودفء أماكنهم حيث مكثوا.
قليلون.. من لصباحاتهم طعم المطر والبَرَد، ورائحة الياسمين، وندى شجرة التين.
قليلون من يتركون شيئاً منهم عالقاً فيك، فلا تنشد الفكاك منه، وتستحضره أي ريح تهبّ، وأي مطر يبلل أسطح المنازل، وأي أغنية هي لليل وعشّاقه.
قليلون.. من يفرحون ذاكرتك إما همساً أو لمساً أو يرسلون ذاك الشعاع من بريق النور، فجأة يحضرون فيها، يحتلونها بكل تفاصيلهم، فتغدو غير ما كنت، وتصبح أنت، هو أنت، لكن بلون مختلف جديد.
قليلون.. إن جاءوا، زَحَف عشبُ الحدائق معهم، وكان الأخضر ظلهم البارد، يتبادون بغلالاتهم البيضاء المبتلة بماء الورد، كعرائس المعابد الإغريقية أيام الخصب والعيد.
قليلون.. من تنتعل الحَفَاءَ لهم، لأن وصلهم مبرّة، ولذيذ التعب وصالهم، ولو طال السير، وتهالكتْ الأقدام، واستهلكتَ كل أغاني الحدو والشدو المُصْبِرات على المسير.
قليلون.. يبهجون الأمكنة، ويؤنسوها بروحهم، وشيء من نور حروفهم، ولا يملون.
قليلون.. لهم في حقائب السفر شيء، ولهم أمكنتهم الشاغرة على طاولات المساء، ولهم حسهم الذي يرافقك حيث تكون الآه.. عجباً، وحين يستصرخك سعال «السكسفون» كعاشق عجوز وحيد في ليل يشتعل وهجاً من أعناب بِيضٍ وحُمْر.
قليلون.. ترمد العين إن غابوا، ولا يرد لها طرفها إلا إن اكتحلت بماء عيونهم أو سرقت من وجوههم حسناً.
قليلون.. يحْيُونَك إن حَيّوك، يشعلونك خيراً وبشرى، وشيئاً كالمسرات، يوقظون فجأة فيك الأمنيات.
قليلون.. إن تمادى البحر في زرقته حضروا، وإن كان للفجر لون غير الرماد حضروا، وإن سكن الرمل بالمطر، ولون الارتواء حضروا، وإن غنت فيروز حضروا.
قليلون.. كلما كبروا عاماً، سبقهم جمالهم عاماً.. كل عام والجميع في خير وحب وسلام ورضا، وتلك الطمأنينة التي تنشدها القلوب.