بقلم - ناصر الظاهري
المدن الجميلة هي التي لا تجعلك تمر هكذا لوحدك، دون أن تحمّلك وزر خطايا الحب، وما هامت به روحك، ضريبة الصدق مع الأصدقاء، أو ممن كنت تعدّهم منهم، مدن لها شيء من الغواية، والهمس الصامت في أذنيك، لكي لا تودعها كما دخلتها خفيفاً، أقلها أن ترمي على أكتافك ثقل التذّكر خلال سنوات العمر، وما مر فيها من أطياف نساء من وقت، وأشباح أصدقاء من وقت، لعلك اليوم برئت منهم، وحدها ظلالهم تأتي مع الغبش، ولا يأتون معها:
- الصديق الذي جاء يعتذر عما بدر، كامرأة أغوت بحّاراً، ولم تستطع ركوب البحر، وما عادت تتسع لها يابسة الزوج، ولا مفر، جاء وركبتاه تتصافقان من الخفر، متذكراً أنه لا وقف معه مظلوماً، ولا نصر، ولا تذكر أن يعينه حين كان ناصراً، ولا حتى شكر، جاء يختضل وأصابع كفه النحيلة الطويلة ترتجف، وكلمات التعلل كانت من سقر، فقال له: لا بكتك العين، ولا تساوي النظر!
- صديق محطات التوقف، والنزول على عجل، صديق ما أطمعتني، وصديق الشبع، يئن للشفقة، ويئن لمد اليد، تسترخص الثقافة حين لا ترفع الهامة، وتسترخص الرجولة حين لا تنفع الرجل، صديق المحطات والنزول على عجل، لم يقنع من المحطات، ولم يشبع من النزول، ولم يرتق، ولا صعد، ضاعت سنواته من اللهاث، ولم يبق في وجهه إلا رماد من مروا عليه عجلين، لم يرتضوا محطاته، ولا رضوا بسقطاته، ولا ما أرتكب عن عمد!
- صديقة الجنون، صديقة النزق والأرق والقلق، صديقة مرحباً، ولا تسأل عن أحد، كانت تريد أن تقبض على الأشياء حين تتراءى لها الأشياء أقرب من مد البصر، فتطير بخفتها تابعة أي ريح غادية أو نَفّة مطر، كانت لو تبعت طُهر نفسها، ولم تطارد سُحب جنونها، ورَزّت في الأرض قدماً أو قيد وتد، لكانت اليوم تحوم حول حديقتها، تراقص عصافيرها، وتقطف الريحان والياسمين، وتشكّ الورد في العُقد، لكن زلتها أنها في مفاصل الحياة لا تبصر، ولا تصبر، ولا تجيد حتى النظر!
- كانت يمكن أن تكون لها كل المدن مرافئ، وكل أمكنتها وأوردتها سبيلاً جارياً لها وحدها، كان يمكن أن يكون الليل نديماً ولِهاً لها، والنهار مستباحاً لها، وِلِعاً بها، وكان يمكن أن تزهو حين تبتل المدن بمطر آخر الليل، وأول ندى العشق، وكان يمكن أن تستظل بظليل صيف الشجر، ذاك الذي يشبه حضن الجدات، حينما نرتمي فيه بتعبنا، ودمع الضجر، كان يمكن أن تخبئها المقاهي والمطاعم، وثرثرات الأصدقاء عن رياح الخريف، وصفير أوراقه المُصفَرّة الهاربة، كان يمكن لدفء الضلوع أن يكون درعاً عن شتاءات قاسية، كان لها أن تزهر في الربيع مع زهر الليمون، وتفتح النوّار، وتصطبغ بنور الشمس حين توزع الذهب في خجل طلوعها، غير أنها طلبت الغفران، وذهبت بكل أشيائها إلى لا مكان!