بقلم - ناصر الظاهري
وجوه جلبتها أيام عَمّان في تلك السنة، حرّكت شيئاً من ثوابت النفس، وبُعدها عن كل ما يمكن أن يؤذيها، وليس أكثر من أذى أن ترى بعضاً من أصدقائك يهرمون في ملابسهم القديمة، ويتوجعون في مدن غير مدنهم الحانية، وجوه رأيتها في العمر الجديد، وعمر الأمراض المقترحة، ووساوس لا يجلبها الشيطان وحده، وجوه يشعرك بعضها بقرب وداع قريب، أو دخول في حالة من اليتم الخريفي، باتجاه أسئلة صامتة مغلقة، ومقلقة للنفس، ولا يودون أن تصحبهم في سباتهم الأبدي، وجوه.. حينها أربكت خطاي، بعضها عرفته من سيماء زهو قديم، وملامح لها حضورها، بعضها بقيت مختفية وراء أسمائها التي ظلت تكبر لوحدها، لا أقول لكم إنني دخلت في حالة من اليباس، وغيوم الكآبة، لأنني لم أكن أعتقد أن الجسد الإنساني يمكن أن يذوي ويذهب في جفاف العدم، أو يمكن أن ترى صديقاً، وكأنك لم تره يوماً أو أنه أصبح اليوم يشبه جاره الذي لا تعرفه.
تغير الوجوه قد يجلب معه تغير القناعات، وتغير الأفكار، وتغير النظرة للحياة، خاصة حين لا يقف أحد من الخيرين مع أولئك الذين يحترقون كل يوم ولحظة بالكلمات، وتنوء كواهلهم بأثقال من قيم وأخلاق وأشياء تحفظ للحياة توازنها أو لا تعرفهم الحكومات الجديدة، أو تضيع الأمور بدمج المؤسسات الثقافية التي أخلصوا لها مع الجمعيات الاستهلاكية التي لا تود التعرف عليهم أو حين يغيب بُعد النظر، ويعامل الأديب والكاتب والفنان، وكأنه عامل في محطة بترول على الطرق الخارجية، بالإمكان الاستغناء عنه حين انتفاء الحاجة، وحين يئن من وجع المفاصل أو تزلزل صدره الأوجاع المبكرة، أو يعيش المنفى في وطنه الذي لا أحد يحبه أكثر منه.
وجوه كانت في عَمّان وفي مدن أخرى، كانت تحفظ لهم شيئاً من الود، وشيئاً من التبجيل، وهم لا يتشرطون، قامات كسرها الزمن والعمر الذاهب في عجلته الجامحة، كانت حينها كمن تحضر كفنها، منتظرة طقس الحنوط والكافور، الشاعران العراقيان الكبيران «عبد الوهاب البياتي»، و«محمد مهدي الجواهري»، والقاص العراقي «عبد الستار ناصر»، والقاص الأردني «خليل قنديل»، والكاتب الأردني «فخري قعوار» والروائي المغربي «محمد شكري»، والكاتب المصري «لطفي الخولي» والكاتبان التونسيان «العروسي المطوي» و«الميداني بن صالح» والشاعر البحريني «علي الشرقاوي» والشاعر الفلسطيني «سميح القاسم»، والكاتب والناشر «رياض نجيب الريس»، وغيرهم.
كثير من تلك الوجوه كانت مصرّة على الحياة والمتع المجبولة عليها، كانت ما تزال تغني للأشياء الملونة فيها، وما زالت تعتقد أن الكلمة هي أشرف المهن، وأن القلم أُنزل بسر من أسرار السماء، إلا أن أمراً ما قد حدث، وأن خطباً ما قد عصف بالمعتقدات، وأن كهف الحياة يبدو من بعيد غير مقمر، وأن الظلام يمكن أن يدثر الحياة بسواد مبكر، لكن.. ولأنهم قامات لا ترفع الراية البيضاء، ظلوا يقولون: لا.. لا.. نعم للحياة!