بقلم - ناصر الظاهري
هناك مشاهد تمر عليك في الحياة، تستوقفك، وتحرك في رأسك أسئلتها الكثيرة، مشاهد لأشياء، مشاهد لأناس، تجبرك على الضحك، وأحياناً تجبرك على التأمل، وغالباً تجبرك على ضحك كالبكاء:
- مشهد.. وأنت تصطف في طابور في مبنى البريد المركزي، وأمامك هندي، قدّرت كم هو مخلص لزمن الرسائل، وشراء الطوابع، وأنه ظل طويلاً يهرم في بقالته التي بقيت صغيرة، وكل ما حولها كبر، وقدم وصلاً لشباك الدفع، وأخرج من جيبه علبة بلاستيكية سوداء أسطوانية الشكل، كانت قديماً تستعمل لوضع أفلام «النيجاتيف» فيها، واليوم في زمن «الديجتال» غابت الأفلام، وغابت علبها، لكن ذلك الهندي أخرجها، وأخرج منها دراهم معدنية، ثم أغلق غطاءها الرمادي، فتعجبت منه، ومن حيلته، وكيف سخر عقله أن يدلّه على فائدة تلك العلبة لحفظ الدراهم!
- مشهد.. في شارع بإحدى المدن العربية تصادف شخصاً من بعيد يدك قاع الأرض دكاً، فوزنه وزن رجال جربوا الجهاد في سبيل الله، ولحيته شعثاء، ذاهبة بالعرض في كل الشعاب، يرتدي ثوباً قصيراً، وصدره بارز، كأنه يتحدى أربعة رجال مرة واحدة، يهدأ المشهد حين تجد في جيب ثوبه العلوي مجموعة أوراق، وكل مجموعة مربوطة بمشبك حديد من الذي يستعمل في مسك الإضبارات، والملفات المكتبية، حتى بانت تلك المشابك الخمسة، وهي تقبض الورق، وتغلق جيب الثوب، وكأن ذئباً قابضاً بفكه العلوي على عضلة صدره!
- مشهد.. مثقف، ملتزم، ويتعامل مع الأشياء بوعي، وبحساسية، وينشد الرقي والأخلاق في كل المعاملات، فإذا ما طلبت منه أن يعطي شرطياً بائساً على الحدود شيئاً يسيراً من المال لكي لا يعيقنا من أجل ليرات بسيطة، انبرى ساخطاً: لا للرشوة والبراطيل، وإفشاء الفساد، وإذا ما طلبنا منه أن يدفع بقشيشاً لنادل المطعم، صرخ: إنما هو يؤدي عمله، وإذا ما طلبنا منه أن يخرج مالاً تعلل بالأخلاق والالتزام والتقدمية، ونبذ الرجعية، ولو طلبنا منه إخراج زكاة العام لخرج وارتد عن الإسلام، ومرة.. رحنا السوق السوداء لصرف دولارات، فظهر الألف دولار بعشرة الآف ليرة، في حين صرفها في البنك الشعبي الرسمي لا يساوي الربع، هنا تحول وجه المثقف إلى مسوَدٍ، وهو كظيم، فهو يريد الصرف في السوق السوداء، ونحن نذّكره بالأخلاق، ونتغنى بالالتزام، ونمهد له بحديث رخو عن حساسية المثقف، ووعيه، وكذلك يكره البنك الشعبي الرسمي، وصرفه البخس الذي يزيده غمطاً ورهقاً!