بقلم - ناصر الظاهري
الأسفار وحدها المعلم الأكبر، شرط أن تكون لديك قابلية أن تكون تلميذاً طوال العمر، وحدها التي تمدك بتجارب مختصرة في الحياة، وتريك وجوهاً ضائعة في الزحام، وجوهاً تقول لقد عرفتها من قبل، ووجهاً ككتاب مفتوح يمكن أن تقرأه بصمت وتأمل.
من أظرف من عرفتهم، في حياة السفر والتجوال، مرشد سياحي إيطالي عجوز ما برح يتمنى أن يرى السائح نفسه مرات أخرى، لقد جعلني أتوقف كثيراً أمام شخصية المرشد السياحي الذي كثيراً ما تنتهي علاقتنا به مع نهاية رحلة اليوم، شخصيات هذه المهنة تتباين بحسب البلدان، والثقافات، والأعمار، بعضهم يشتغل، ويستغل تلك المهنة لتمضية وقت فراغه أو لزيادة دخله، بعضهم يمتهنها بعد تقاعد طرداً للوحدة المنزلية، بعضهم يعتبرها كالسفر، كل يوم يلتقي بأناس جدد مختلفين في كل شيء، والبعض يعدها وكأنها من محفزات السعادة لديه، شخصياتهم تشبه شخصيات سائقي سيارات الأجرة، غير أنها أكثر ثقافة واطلاعاً، سائق الأجرة بالكاد يقرأ جريدة، إلا إذا نسيها زبون على المقعد الخلفي، ثقافتهم سماعية من راديو، أحاديث تتداول في قاع المدينة، والبحث عن سائح مندهش، المرشد السياحي معلوماته لها ثمنها، وقد تعب عليها، منهم ذوو شخصيات فكاهية، ومنهم مطالبون بها كجزء من إسعاد السائح بنكات ومعلومات تدرب عليها طويلاً، موقناً أن السياح لا يتكررون دائماً، مشكلة بعضهم اللغة التي كثيراً ما يقعون في أبشع أغلاطها، والتي تحمل مضامين وإيحاءات سيئة لا يدركها إلا أهلها، وخاصة أولئك الذين يعتمدون على كتاب «كيف تتعلم الألمانية في خمسة أيام وبدون معلم»، فتظهر «ألمانيته»، بلا روح «بافارية»، طافحة بالعافية والشعير وعشبة الدينار، كمثل صيني يغني بالفرنسية جاعلاً من حروفها المتناغمة والمدغمة حروفاً قافزة، تخضع لإيقاع لغته المتقطعة ذات الجمل الحادة، أو مثل أميركي يتحدث الإيطالية فيفرغها من موسيقاها ونكهتها التي تشبه القهوة الساخنة.
التجوال يعرفك بمرشدين قلما يتكررون، ويظلون عالقين في الذاكرة، كذلك العجوز الذي قادنا للتعرف على جزيرة «كابري» الإيطالية، فأول ما يشعرك، حين تلتقيه، أنه سائح مثلك، لولا تلك البدلة المفروضة عليه بحكم إعطاء أهمية لعمله، وبحكم يفرضه العمر عليه، رغم تململه من حر الجزيرة، ورطوبتها التي تؤذي بدلته شبه الداكنة، كبر سنّه يعطيه أن يقودك ويرشدك، ويدلك بصدق على الأماكن الآمنة، قد يقول لك بأنه سيبدأ بسوق السمك باكراً، ويطوف بك على بائعي الخضرة والفاكهة الذين يعرفهم بالاسم، وينادونه باسمه الأول، وقد يطلب منك أن تستريح معه على دكة في حديقة عامة، قد تتعبه واحدة مثل أروى تركض نحو عقدها الأول، وتردد كلمات بالإسبانية والإنجليزية مستقرة في قلبها الصغير الحافظ، يفرح بشقاوتها كحفيدة، وتظل عيناه تتابعانها كدليل للفوج السياحي، ويطمئن على صحنها في الغداء البخيل للشركة السياحية، ويدلها على أطيب آيس كريم بالليمون في إيطاليا.. وغداً نكمل