بقلم - ناصر الظاهري
هناك أناس تجدهم صنعوا من خير، ولم يطرحوا إلا الخير، وجوههم والإيمان سواء، وثمة تبارك في كل الخطوات، هم نورانيون يا لحظهم، محبوبون تسبقهم البشارة، جلسوا مرة مع النفس، وقالوا: لقد عرفنا ما نريد! وكانت الهداية والاهتداء، فلم تزلّ أقدامهم بعدها، ولم تعدم كَفّ السخاء من بيض جودهم، الحاج سعيد لوتاه هو واحد من أولئك السالكين نحو دروب الله، وما يحب ويرضى، ومثله عمرك لن تشعر إلا أنه جد عطوف رحيم، يضيء فجرك بالتلاوات والذكر الحكيم، ثمة تسابيح فجرية توقظ «دروازة» البيت الكبير، هي خطوات «الحاج» المباركة منذ صباحه الفجري وحتى المساء المطمئن.
كنّا نقول: كانت جنازة الرجل خفيفة على الأكتاف، وحين أُدخل لقبره، كان هناك اتساع في اللحد لم يعهده الرجال المودعون، هكذا.. هي جنائز الصالحين، عادة ما تكون محفوفة بالغيم ونفاف المطر، وذلك الظل الذي يمشي كسحابة مثقلة نحو بيت يتيم أو امرأة حزينة، وهكذا رحل «الحاج» يسبقه الدعاء من يتيم حنّ عليه أو طالب علم أعانه عليه أو بيت محتاج عضّد فقره أو عائلات كثيرة وفي كل مكان مالت عليه، فلم يخذلها حياً، ولم ينسها ميتاً، لقد ثقلت موازينه، فرفعته خفيفاً على الأكتاف مثل حمل رضيع، كلنا كنا في وداعه كمن فارق جده، لمَ للأجداد المسبحين تلك الرائحة المختلطة بدهن الورد والعود، ولمَ تكون المشاغبة الطفولية بالعبث بلحاهم البيضاء المرسلة على الصدور، ولمَ هم عادة ما يخبئون للأحفاد أشياء صغيرة وبسيطة لكنها تطرب قلوب الصغار، وتجعلها تتقافز كحمام الراعبي إن جسه ماء غدير أو فلج جار؟! الشواب هم ذخيرة الأيام التي سنحملها معنا حيث تنتهي الخطوات، وتطوى المسافات. «الحاج» رجل نبيل وبسيط وشريف، وكان يدفع الأذى، ويقارب البر والخير والإحسان دائماً وكيفما قدر، بعض الرجال لا نبكيهم لأنهم سبقونا إلى ذلك الخير، وإلى القبض على مفاتح السعادة، وإلى أشياء أبصروها بالبصيرة، وغابت عنا بالبصر، ناجوا الرحمن كي يكونوا من الشهداء، وإن لم تكتب لهم تلك البشارة، فلا يفوتهم أجرهم وأجرها، ولا منزلتهم ولا منزلتها، ولا الارتقاء إلى أعلى عليين مثلهم ومكانتها. ودعت الإمارات رجلاً باراً، راضياً ومرضياً، رزقه الله من عنده، ولم يبخل بما عنده، مثل «الحاج» تتمنى أن تلتقي به وهو هامّ يتوكأ على البسملة والحمد لله إلى صلاة الجمعة ينثر مسكه أو عائد فجراً بنفسه الأمّارة بالخير وحده، بعض الناس يشعرونك بتلك الدعوة المحمدية الأولى في بطحاء شعب عامر، حيث أحد أحد، وحيث التلاوة سراً والصلاة جهراً، وحيث دار ابن أبي الأرقم، وخباب يستتر، وضعفاء مكة، وجلاوزتها، وحيث للبيت رب يحميه، وللمبشر الجديد رب ينجيه، لا أعلى هُبل، ولكن إذا جاء نصر الله والفتح، دائماً ما كنت أرى في وجه ذاك «الحاج» شيئاً من ذاك الزمان، وطُهر الأشياء، عاش لغيره، وعمل لغيره، من أجل إسعاد نفسه ورضاها، وكسب حب من خلقها وسواها، فكانت الدنيا خضراء به دوماً.