بقلم - ناصر الظاهري
تظل نفسي تدفعني لفعل أشياء بسيطة أعتقد أنها من الخير، وجميل الإحسان، وأمر يبهج القلب، ولا يجعله في سكونه، مرات أشعر أنني حارس للمدينة غير معلن، وعليّ مسؤوليات جسام أمام البسطاء، ومن يلتمسون الفرج في الوجوه، وأحياناً أوقظ النفس الأمّارة بالحب، وأقول: لا تحمّلها أشياء أثقل منها، لأن حزنها كبير، وتؤلمك ردات فعل الناس، مثل نكران الجميل أو معاملتك بما تنطوي عليه مضغات أكبادهم، غير أنك كلما تبت من عمل الخير والطيب ردتك نفسك لفرح ذلك الصبي الذي في داخلك، والذي لا يريد أن يكبر، ولا يريد أن يكفّ عن بشارة الخير، ولا عن تلك الدهشة التي يجدها في المدن الكثيرة، خاصة باريس حيث تعود بك أشياؤك الصغيرة تزاغي فرحك، بتقديم الفكة لمن يطلبها ولا يجدها في صندوق المحل الذي تكون موجوداً فيه بالصدفة، وكثيراً ما تقف لسماع موسيقيٍّ يعزف في محطة القطار، ولا يتنبه له الكثيرون أو يمرون مسرعين من أمامه، فتسعدك النقود الصغيرة التي تضعها في قبعته المقلوبة أو في صندوق آلته الموسيقية مع تصفيقة خفيفة أو إيماءة من الرأس تدل على الامتنان أو تجالس بعضاً من كبار السن والمتقاعدين من الجزائريين أو المغاربة ممن شاركوا في حروب فرنسا خارج مياهها الإقليمية، في استراحتهم النهائية يحاولون أن يتذكروا أحداثاً كثيرة كانت في قاع الذاكرة، والآن غابت أو أغبَش ضوؤها أو تجلس تنصت لحديث العجائز الفرنسيات «اليمينيات»، وهن يكلْن السباب والشتائم على الملونين والعرب في فرنسا والمهاجرين الأفارقة، حتى أحياناً تسمع شتائمهن تكاد أن تصل إلى الكرسي الجالس عليه مع أنيسك الكتاب أو الصحيفة.
كان من الفرح أن تقدم تذكرة «مترو» برحابة صدر إلى امرأة أفريقية مرتبكة بوزنها وأثوابها الملونة، وعمامة رأسها، ولكنتها الأفريقية التي تشبه بهاراتهم الساخنة النافذة أو تخفف عن حاجّة مغاربية بعمر جدتك بثوبها «الحايك» الأبيض، ولثام الستر على وجهها، والخوف من الأشياء التي لم تعتدها في مدينة يغلب عليها الرجس، فتأخذ بيدها ولا تريد أن تودعها، لأنها أشعرتك لحظتها، وكأنها أم تبحث عن ولدها الغائب الوحيد، والذي لا تعرف عنوانه، إلا من خلال رسائل كاذبة كان يرسلها في أوقات متباعدة، بغية لقلبها أن يهدأ، فتكف عن الشفقة والسؤال، لكنها تتبع حدسها وأحلامها أنه يقبع خلف زنزانة حديدية في غرفة ضيقة، كنت تريدها لو تقول: ابني لو تبقيني أسابيع في بيتك! لكنه «النيف»، فتساعدها للوصول إلى مبتغاها، ولو تعطلت، لأن للسعادة ضريبة، والعجلة لا تجلب الفرح أحياناً.
كنت تفعل كل تلك الأمور بشيء من الحبور والفرح معتبراً إياها جزءاً من تفاصيل تعشقها في شوارع باريس والمدن الأخرى، لكنْ هناك جبروت للزمن، كيف قدر أن يسرق منك فضول وبساطة الماضي، وكيف عمل على تخشبك، وزاد من تربصك، وشكك في الأشياء والناس؟ وأنك لم تعد ذلك الإنسان الآخر ، ذلك الصبي الساكن في الداخل، والذي لا يحب أن يكبر ، والذي ربما لا تعرفه اليوم!