بقلم - ناصر الظاهري
تجوس في فيينا.. وفي صباحاتها الخالية من الكدر، والمتلفحة بالندى، وبشيء من السحر، تتوقف تعد تفاصيل يومها بكسل وبمهل، تناظر بائعة الخبز المستعجلة، والتي يجدر بها أن تكون ممرضة في يوم ما، بتلك النظارة الطبية الدائرية ذات الإطار الأسود الخفيف، نقاء مسامات الوجه، والمعطف الأبيض يضفي عليها شيئاً من رونق المستشفيات ذات الرائحة المطهرة، والإخلاص الملائكي لعاملات الرحمة.
ما الذي يجعل مشاركاً مثلك في مؤتمر يخص اليونسكو أو مبعوثاً جاهزاً تختاره تلك الهيئات الثقافية المتكلسة، والتي تعد كثيراً من كلام المثقفين خريطاً في خريط، وأن مؤتمراتهم مصدر للضجر، وللكلام الذي يتعب الرأس، ويثقل القلب، أن يدلف إلى المخبز الذي يحتل خاصرة الشارع؟ أهو الفضول الصباحي! لترى يقظته على الوجوه الناشرة مبكراً، أم البحث عن الضحكة المخلصة لمنظر العجين الخارج للتو من تلك الحجرة النارية! تلك الرائحة البرّية التي حملتها معك منذ كنت طفلاً يتدثر بخاصرة أمه، ويراقب خبزها، وحركة يدها، ونشيجها من دخان «الطرافة، وسعف النخل»، ليس أجمل من خبزة ساخنة في أي بقعة، خاصة من امرأة لا تعرف إلا بيتها ميداناً، لقد ركضت خلف تلك العجينة المخمرة، والخبزة الساخنة في بلاد الله ومدنه، اشتهيتها مرة ككسرة في إثيوبيا، وكخبز الدار في المغرب، وقصبة الجزائر، كرغيف «وقّافي» لمخبز إيراني، «العيش المصري البلدي»، الهند وشهوات الخبز الكثيرة، لأنواع كثيرة، تركيا، وجورجيا، العراق، ولبنان، وفرنسا، شهوات متعددة لا تنقطع، وكل موضع يهديك شيئاً منه، يوجب الشكر، ودوام النعمة، وأنه يكفي للحياة، ثمة فرحة مبعثها السخونة، والطزاجة، والرائحة التي تصل أنفك قبل نشوة قضم تلك الكسرة، حتى أنك تفضلها شخصياً على بوليصة تأمين لشركة إنجليزية موقعها جزر بريطانيا العذراء.
يتقاطر على الذاكرة حين تصل النمسا أربعة من عظماء الموسيقى، ولدوا هنا، وأضفوا لشوارعها تلك الهيبة، والحضور الذي لا ينسى: «موزارت، شتراوس، هايدن، شوبيرت»، ويبقى شيء من موسيقاهم يضيء مسلكك في تلك الطرق شبه المتعرجة، وتعنّ عليك مثل شيء من الحنين موسيقى «الدانوب الأزرق».
صباح فيينا الذي كان حاضراً في الذاكرة دوماً، منذ أن غامرت باتجاه معرفة «بنت العم» التاريخي، تلك النمساوية التي كانت تدرس التاريخ، لكنها تؤمن بالتقاطع، ومساحات من العيش السوي، مثلما تؤمن بتلك الجذور الموغلة في سواد حروف الألواح، والوصايا العشر، وأحبت مرة أن ترشدك إلى صباح جميل، ومختلف في مدينة، عادة لا يمكث فيها الغرباء كثيراً، والتي تعنّ على الرأس بين الحين والحين، متذكراً لحظات الخصام التاريخي، والتوحد الجغرافي لأجساد كانت تخبّ في براري الرعي الأولى، حيث كل الأرض مشاع، والإنسان يركض خلف أسئلة وجودية هاربة منه، ما أجمل فيينا بذلك الغسق الأنثوي الذي عرفته مرة، ولا تريد أن تنساه!