بقلم : ناصر الظاهري
كان من ضمن دروس التاريخ في الصفوف الأولى، قضية «سبتة ومليلية» المحتلتين من الأراضي المغربية، بقي اسما المدينتين عالقين في الرأس، وأتذكرهما كلما حدث خطب أو تم تداول الاسمين في مجريات الأحداث، حتى في سنة من السنوات قررت أن أزورهما بداعي الفضول، ومحاولة تذكر دروس التاريخ الأولى، واكتشاف الغريب من المدن، فكانت أولى الخطوات نحو مدينة «سبتة» التي احتلتها البرتغال عام 1415م، قبل سقوط الأندلس، وضعف ملوك الطوائف من بني الأحمر، لتصبح منطلقاً للحروب الصليبية، بعد ما كانت ثغراً للفتوحات الإسلامية، ومن بعدها «مليلية» التي احتلتها إسبانيا بعد سقوط غرناطة بخمس سنوات، أي عام 1497م، وقد لعبت «سبتة» دوراً في احتلال إسبانيا للبرتغال، ومن ثم احتلالها لسبتة، مما اضطر البرتغال للتفاوض مع إسبانيا للاعتراف باستقلالها برعاية بريطانية مقابل أن تتنازل عن «سبتة»، وذلك عام 1668م، بمقتضى معاهدة «لشبونة». وقد تم شن مائة حملة لطرد المستعمر منها، ولَم تنجح كل تلك المحاولات، بسبب مناعة أسوارها وحصونها التي تطوقها، حيث حاصرها المولى إسماعيل أربعة وثلاثين عاماً كأطول حصار في التاريخ، وحاصر المولى محمد بن عبدالله «مليلية»، لكن لحصانة قلعتها الشامخة فوق تلك الربوة الشاهقة، تمنعت عليهم المدينة، وتبلغ مساحة «سبتة» 20 كيلومتراً مربعاً، وسكانها حوالي 77 ألف نسمة، في حين مساحة «مليلية» 12 كيلومتراً مربعاً، وسكانها 70 ألف نسمة، التواجد المغربي هو الأقل بسبب السياسات المتبعة، فهما في عرف الأمم المتحدة ليستا محتلتين.
ذات صيف قررت أن أدخل هاتين المدينتين عنوة، لأبدد الفضول والغموض، وعما كنت أسمع عنهما من بعيد، وأثناء النزاعات في الأخبار، كانت مغامرة من دون أي إرهاصات أو تقصٍ، فالصورة المسبقة لهما غير واضحة، ولا أدري أي الطابع هو الغالب المغربي أم الإسباني، وأي اللغات السائدة. كان الدخول لهما عبر منافذ البر، وتدرون كم هي تعيسة تلك الحدود العربية البرية في كل مكان، لا تشعر إلا بمدينة نائية، وكثير من الخرائب تستقبلك، وثمة تجارة رائجة هي التهريب لكل شيء، وإن كان التهريب هو السيد، فالرشوة هي سيدة المقام، هناك بؤس واضح يرافقك حتى تدخل الحدود الإسبانية، ساعتها تشعر بانزياح شيء ثقيل كان جاثياً على الصدر، ولا تدري ما هو؟ هل هي الشكوك والريبة التي تلتصق بأي زائر غريب للمكان، وكأنه مُهرّب لا محالة، أم طبيعة سمة الحدود البرية لهذه المدن العربية؟.
«سبتة» أجمل، وأكثر تنظيماً، وهادئة، يغلب عليها طابع مدن الجنوب الإسباني، والبحرية بالذات، لكنها أقل صخباً منها، في لحظة من اللحظات تبدو لك أنها مدينة يستحقها المتقاعدون، والذين يحبذون جلسة الكراسي لساعات طوال منشغلين بكتاب، وبفنجان قهوة كأنه لا يبرد أو مصاحباً ظهيرة باردة تليق بطقوس مدينة متوسطية.
أما «مليلية» فهي القلعة الضخمة، تشعرك أنها باخرة كبيرة أبحرت من الساحل الإسباني، ولَم يسعفها حظها البحري طويلاً، فبركت قبالة الساحل المقابل، ثمة روح مغاربية غالبة، لكنها في حقيقتها هي توأم لمدينة مالقا، تعيش من أجل البحر، وبسبب البحر.