تذكرة وحقيبة سفر 2

تذكرة وحقيبة سفر -2-

تذكرة وحقيبة سفر -2-

 صوت الإمارات -

تذكرة وحقيبة سفر 2

ناصر الظاهري
بقلم - ناصر الظاهري

من بين تلك المدن التي كانت مهبطاً كل الأوقات، ثم باعدت بيننا السنون، إسبانيا والنمسا.. إسبانيا بمدنها الكثيرة والمتنوعة والزاخرة بالمختلف والبسيط والجميل، كانت الزيارة الأولى لها في أواخر السبعينيات، بحفنة من «البيزتا»، وتجربة عمر قصيرة، ولا لغة تساعد، ويمكن أن أتوكأ عليها، عبرت لها من جبل طارق قاصداً أن أرى الأندلس المفقودة، يومها كنت مغرماً حد الوجد، عاشقاً دنفاً لكل أشياء الماضي، وعبق التاريخ، لا يسيّرني إلا محبة الجمال في دروب المدن، وقلت لو حُرقت تلك السفينة الموصلة، ولم يكن ورائي إلا البحر، ولا أمامي غير الأندلس، فسأمكث أجوب تلك الديار، لا أغادرها إلا وأنا مُحَمل بالعلوم والمعارف، وما تكسبك إياه الأسفار، جارّاً معي زفرة العربي الأخيرة تحسفاً وندماً على ممالك عصفت بها الريح في غفلة من أهلها، في ذاك اللقاء الأول، والذي بقي عزيزاً دافئاً طوال الوقت، زرت إسبانيا حينها كلها، غير أن قلبي ظل معلقاً في قرطبة وغرناطة وإشبيلية، فهناك ذقت أشياء لأول مرة تسعفني الحياة بتذوقها، وتلمست مفاتن الجمال في الأبنية والمآكل والمشارب والمغاني والفنون المحيطة بك أينما وليت، وألفة الدور الأندلسية، وطيب الناس، وشقاوة الحياة ومرحها حين يمكن أن تختصرها «سارة» بنت بلد الوليد، وكنت حين أعاود المجيء لإسبانيا تجدني أتتبع خطى الزيارة الأولى، بالاطمئنان على الأمكنة والوجوه ومخابئ الذكريات، وما لا أريد للزمن أن يبدله أو يمحوه، غير أن الزيارة الجديدة بعد كل ذلك التباعد بعقدين ويزيد، جعلتني في ليلة خريفية، بارد هواؤها أن أدع السعادة تغمرني دون سقف في ذلك المطعم الفاخر الذي يحتل خاصرة فندق «الريتز» العريق في مدريد، ساعتها شعرت بصدق كم هو بالغ سحر المدن فينا، وكيف تفعل بنا الأشياء، حين تجعل كل ذلك المخزون يتداعى من الرأس إلى القلب دون ما استئذان.
أما النمسا فقد اختصرتها في مدينتين «فيينا وسالزبورغ»، حيث يمكن للفن أن يتجلى في أبهى صوره، والموسيقى وحدها الرفيق الذي لا تمله حقائب السفر، والمشاهد الطبيعية الخضراء التي تشبه كل القرى في الريف الأوروبي تزاغي عينيك، تبصرها وتود لو تبصر المساء حين يأذن لليل بالتسلل أو الصباح حين يتمطى فجراً داعياً الشمس الخجلى أن تسلم على الشرفات، في فيينا كانت صباحات عابقة بالود والورد ورائحة القهوة الإيطالية، صباحات كانت مرتجفة من تلك النسائم التي تأخذك من باب الفندق، وتظل ملاصقة حتى نهاية رجوعك من تعب الأقدام، وصبر المسافات، في «فيينا وسالزبورغ» عليك أن تدع الأشياء تتحدث، ولا تعاند النفس، حتى الفراغات هناك شيء جميل يسكن فيها، فكيف إذا ما وجدت مقاهي عمرها يقارب الخمسمائة عام، وكأنها من أحجار سورها المقاتل، لا أدري دوماً لِمَ يوحي لي المقهى بالفرح والسكينة، حينما أراه قابضاً على زاوية في الرصيف أو فاتحاً شبابيكه للمارين كدعوة مشبعة بالاشتهاء، المقاهي هي ضحكة المدن، وضجيجها المرح، وهي التي أوزعتني أن أترك التاريخ ورائي، وأذهب مغامراً نحو ضفة أخرى منه، ربما كانت هناك ثمرة من تلك الشجرة أو رزق كريم، وأن أجوس مع «سالومي» الديار، فما كان يفرقنا فيه التاريخ وانتقامه، ها هي الجغرافيا تعطينا مساحة معشبة بالاخضرار، ودوام تدلي العناقيد، كي نتسامى، ونعلو على ثارات التاريخ البعيد.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تذكرة وحقيبة سفر 2 تذكرة وحقيبة سفر 2



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 06:02 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

أسرار أبرز التيجان الملكية التي ارتدتها كيت ميدلتون
 صوت الإمارات - أسرار أبرز التيجان الملكية التي ارتدتها كيت ميدلتون

GMT 19:45 2018 الإثنين ,12 شباط / فبراير

محمد صلاح يؤكد سعادته بفوز فريقه على ساوثهامتون

GMT 12:49 2017 الأحد ,17 كانون الأول / ديسمبر

اكتشاف 4 مقابر لأطفال في أسوان أحدهم مصاب بشكل خطير

GMT 19:26 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدًا وقد تلفت أنظار المسؤولين

GMT 11:34 2020 السبت ,19 كانون الأول / ديسمبر

أحدث إطلالات جيجي حديد في اول ظهور لها في نيويورك

GMT 20:55 2019 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

4 وفيات اثر حادث تصادم على الطريق الصحراوي

GMT 15:33 2018 الأربعاء ,02 أيار / مايو

أنواع فيتامين "الأوميجا" تعمل على تغذية الجسم

GMT 14:42 2013 الثلاثاء ,11 حزيران / يونيو

وحيد حامد في ضيافة خيري رمضان في برنامج "ممكن"

GMT 19:05 2014 الأحد ,07 كانون الأول / ديسمبر

3 تطبيقات مجانية لمراقبة أداء أجهزة "آيفون"

GMT 14:49 2013 السبت ,06 إبريل / نيسان

الإعلام يساهم في تغير المجتمعات نحو الأفضل

GMT 10:43 2013 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة : غسل اليدين يزيد الطالب تفوقاً

GMT 00:49 2020 الجمعة ,25 أيلول / سبتمبر

أفضل عطر نسائي للمرأة العاملة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates