بقلم - ناصر الظاهري
«والله تفيزرت» بتلك البدلة التايوانية التقليد اللامعة في القطار الأرضي السريع «R.E.R»، وجلست أتتبع المحطات والتحويلات، فتخيل للجالسين في المقصورة أنني مثل الآتي من القرية لباريس، ومرتدياً كل ما هو معلق على حبل الغسيل، ابتسامتي الدائمة لم يترجمها جلهم، إلا أنني واقع تحت مشروع نصب، على طرفه الآخر امرأة متمرسة، ظل القطار ينهب الطريق حتى وصلت لمضيفنا بعد عدة تحويلات أرضية، وتبديل قطارات من السريعة إلى «المترو» العادي، استقبلني بحفاوة، وأول الجمل التي ساقها بطبيعته الشحيحة: «اخترت بيتي في هذا المكان لأنه هادئ ومريح وكل شيء طازج ورخيص، ولا تحتاج أن تنزل المدينة»، وافقته بهزة رأس فيها من عدم الاقتناع الكثير، حتى فاجأني أن العزيمة ليست في بيته، وإنما في منطقة بالقرب من «Rue Des Lilas»، وعلينا أن نركب لها قطاراً، وهنا بدأت عندي مرحلة الغليان، متمنياً عليه أن نشرب في أي مقهى فنجان قهوة ونتحدث، لكنه أصر قائلاً: «أنا أفضل تلك المنطقة، ولو كانت بعيدة قليلاً من هنا، لكن فيها مطعم إسلامي جيد»، فقلت في نفسي: «من قال لك إنني أريد مطعماً إسلامياً أصلاً»؟ تكبدنا ركوب القطار ثانية، طبعاً في الدرجة الثانية، لأنه هو من ناولني تلك التذكرة الصغيرة التي تشبه لسان الطير، فقلت: «يا خسارة هذه البدلة التايوانية اللامعة»! خرجنا من المحطة، فإذا به أمامنا مشوار من المشي يبدو أنه ليس بالقصير، لأننا مررنا بمحلات للمهاجرين تبيع أقمشة ألوانها نارية، وبضائع أفريقية وجلوداً وتماثيل خشبية، ثم مررنا بمخبز فرنسي يبدو أنه يستعد للرحيل من هذه المنطقة، ومحل جزارة لحم حلال، بقينا نمشي حتى مررنا بمقبرة لليهود على جدرانها كتابات عدائية، بما تسنت له ترجمتي الركيكة، فمازحته من غضبي: «يا ليتك أعطيتني ثمن هذه العزيمة نقداً»! فبرقت عيناه، كمن مَرَطّ من جيبه محفظته، فابتسم بمرارة واضحة لا تخفى عليّ، المهم.. بعد عناء وصلنا مطعماًً تركياً تفوح في جوانبه رائحة الشحوم الباردة، وكأنها ملتصقة بمفارش الطاولات، لأنها لم تغادر أنفي، كان مطعماً بائساً، وكأنه افتتح لعمال ومهاجرين يؤمونه بعد عناء نهار بطوله، وظل يعدد الأكلات التركية حتى شبعت من كلامه، مصححاً له بعض مسميات أكلهم اللذيذ، فانتبه قائلاً: «يبدو أنك خبير في المأكولات التركية»، قالها، وبينه وبين نفسه يتساءل ربما يكون بطيناً، ويطلب أكثر من وجبة، فحزمها وجزمها، طالباً لكل منا صحن كباب، لأنه على حد قوله: «هذا المطعم يقدم أفضل صحن كباب.. زي الكباب في الحسين»! طبعاً لا هو كباب ولا هو تركي، الشيء الوحيد الذي أعجبني الخبز التركي الساخن «لافاش»، جلست ساهياً مؤنباًً نفسي الخجولة، وكل تفكيري كيف الوصول إلى منزلي في رحلة القطارات الليلية، ثم طرأت لي فكرة، وسألت صاحب المطعم إذا كان هناك سائق تركي لديه سيارة ويوصلني لباريس، وسأعطيه مائة يورو، فقفز التركي قبل أن يقفز مضيفي أو حتى ينبس ببنت شفة، لأنه يبدو أنه يعرفه جيداً، ويدرك تأثير سماع وخروج المائة «يورو» عليه، ناول أحد عماله مفتاح سيارته الخصوصية، وأمره أن يوصلني لعنواني، ويأخذ مني مائة «يورو» نقداً، لا بالبطاقة الائتمانية، المشكلة أن رائحة الكباب الرخيص كانت في كل مكان؛ في السيارة، في ملابس العامل، وفي يدي وأنفي.. وحين أتذكر وجه مضيفي البخيل الضعيف، لذا بسببها قطعت صلتي به وبأمثاله، ولو حلفوا عليّ بالكعبة المشرفة.