بقلم : ناصر الظاهري
وقفت أتأمل ذلك الحذاء الطويل الغائب عن البحر الأبيض المتوسط، وكأن إيطاليا سفينة ساقها القراصنة ليلاً نحو بحور الظلمات، وقلت: كيف يخلو العالم من الإيطاليين عشاق التجريب، والتغريب، والجرأة، هم لا يخشون أن يدمجوا لوناً كالفيروزي مع البنفسجي ليعطيا شيئاً أشبه برونق الشباب، يدخلون على بدلات الموظفين المتزمتين، والمحترمين حد الملل، ويقطعونها، ويضفون عليها خطوطاً دونما أي خوف أو وجل، لتليق بعد ذلك بفنان صعلوك متأنق، ينظرون للحذاء الإنجليزي المقاوم حد الضجر، بتلك الخيوط التي لم تتغير منذ حرب المائة عام بين إنجلترا وفرنسا، فيقلبونه رأساً على قدم، ويعطونه امتداداً، وقد يظهرون خياطته دليل البذخ، والقيمة العالية، للإيطاليين تلك الأفكار التي تأتي من ذلك الجنون المتوسطي، وشغف الإيطالي بالحياة والمساومة في البيع والتسويق.
ما زلت أمام دهشة سؤال، لو انسحبت إيطاليا من خريطة العالم، وأمام غنى الجواب الذي كان حاضراً في النفس، ويجعلك تتذكر، مبحراً في ذاكرة بعيدة: لولا إيطاليا لخسر العالم جبروت روما، وتمدد جيوشها، وتلك الفتوحات القيصرية التي جلبت التلاقح الحضاري، ولكانت المسيحية اليوم تقبع في أديرة في أطراف الشام، وبعض كنائس منسية على طريق القوافل، ولا مجد للفاتيكان، ولتلك الرسومات التي تزين قباب الكاتدرائيات، ولما كان هناك زجاج معشق، ولا تماثيل لـ«مايكل أنجلو»، ولا لعبقريات «دافنشي» في الخطوط والأسرار والرسوم والاختراعات، ولتأخرت مهارات البناء، والتصاميم الهندسية.
لولا إيطاليا، وتجار «البندقية»، وتجار «جنوة»، لما عرف العالم «الجينز» برسمه واسمه، ولولا ذلك الإيطالي «أمريكو فيسوبوتشي» لما تسمت أميركا، لولا المصممون الإيطاليون لما ظهرت موضة، وتزين الناس، ودخلت الفرحة لنفوسهم، يأتي «فرساتشي» مثلاً، وفجأة تتحول الحياة إلى اللون الأصفر الذي كان مهملاً، مع إضفاء تواشيح جميلة عليه من ألوان كانت هاربة، لولا خطوطهم الإيطالية، لكانت اليخوت ينقصها شيء من الرفاهية الملكية، ولما عرفنا الراديو لولا «ماركوني».. كان مخترع التليفون «غراهام بيل» عام 1876 وحتى 2002، لكن بعد 113 سنة، رد الكونجرس الأميركي الاعتبار للمخترع الإيطالي الحقيقي للتليفون «انطونيو ميوتشي»، وبفضل «اليساندرو فولتا» عرف العالم البطارية، وبفضل «فيليني» عرفنا السينما الواقعية، وعرفنا أدب «البيرتو مورافيا»، وعرفنا رائعة «دانتي» الكوميديا الإلهية.. من غير الإيطاليين يمكنهم أن يخلطوا أشياء بسيطة، ويظهروا للعالم منها أشياء رائعة؟ البيتزا مثلاً، وتلك المائدة العامرة الخارجة من «الفورنو». من إيطاليا ظهر جانب الخير «غيرابالدي»، وظهر جانب الشر «موسوليني»، ومن صقلية كان الشر «المافيا الصقلية»، وكان الخير باني القاهرة «جوهر الصقلي»، هم أصحاب «الفيراري ولمبرغيني والفوروميو»، هم مجانين الكرة، وأصحاب مدرسة الـ«كاتيناتشو» الدفاعية «مزلاج الباب»، ويصعب العد.. كل الشكر على أن إيطاليا كانت على خريطة العالم.. وليصل الجميع من أجلها، ومن أجل خيرها الكثير!