بقلم - ناصر الظاهري
لقد غاب ذلك الرجل المثقف، المعتد بنفسه، وبقيمة ما يحمل في رأسه، وهو خارج صباحاً متأبطاً صحيفته، مرتدياً بدلته الأنيقة ذات الثلاث قطع من الصوف الإنجليزي الوبري، والتي حاكها عند خياط ما زال مخلصاً لمهنته القديمة، تتدلى من الصديري سلسلة ساعة جيب، وخيط نظارة طبية للقراءة بعين واحدة، يظل يفلي الجريدة فلياً، وهو يمز فنجان قهوته، مثلما غاب ذلك المخبر ذو المعطف الترابي، والذي عادة ما يحمل جريدة قديمة مثقوبة، لا يقرأها، بقدر ما يتلصص من خلالها على الآخرين، مثلما غاب بائع الصحف الذي يتراقص مع إيقاع توقف الإشارات الحمراء على تقاطع الشوارع، اليوم لا أحد مخلص لقراءة الصحف باكراً، ولا أحد له ذاك المزاج لكي يحمل جريدة ورقية ذات الأحبار النفّاذة، والأخبار البائتة، قليلون من بقوا على عادتهم القديمة كجزء من طقوس النهار، اليوم فقط المهتمون الذين يصبح الواحد منهم مواجهاً شاشة جهازه الكريستالي يتنقل بين الصحف، أما الكثير فيكتفي بالعناوين السريعة، أما الجيل الجديد فيمكن أن تراهن على جلهم أنهم لا يعرفون من الصحف اليومية إلا الملاحق الرياضية، ولا يقرأون إلا الأشياء الخفيفة والمنوعة، والتي تسر خاطرهم، ولا تتعب رؤوسهم، مثل التحليلات السياسية أو الدراسات ومقالات الرأي الفكرية، أما الجيل الذي يفاخر أنه لا يعرف العربية، وأن ثقافته إنجليزية، فالرهان عليه كبير أنه لا يقرأ صحيفة إنجليزية من الصحف التقليدية، الصادرة في لندن أو نيويورك، ولا حتى صحفنا المحلية الصادرة باللغة الإنجليزية، كل معلوماته التي يستقيها منذ الصباح، ما دَوّن المدونون، وما خط «السنابيون»، وما تداوله «الإنستغراميون»، وما استعرضته «الفاشينستات» من ولائم وقوائم وتهم وعزائم، والهوة تضيق بالنسبة للصبايا اللاتي لا يهمهن إن صدرت جريدة أو حُجبت صحيفة، هي أكثر ما يمكن أن يصادقن المجلات، لذلك التنوع في المسائل الاجتماعية والحياة والأزياء والأمور الاستهلاكية، أما الصحف فلا شك أنها تثير أعصابهن، خاصة الصحف السياسية، وصحف المعارضة، والملاحق الثقافية والملاحق الرياضية، في حين لديهن اهتمام بالملاحق الاقتصادية بشكل لافت للنظر.
لا أحد يقرأ الصحف؛ لذا على الصحف لكي تبقى أن تغير من جلدتها بين الحين والآخر، وتعبر نحو الرقمي بطريقة تختلف عن وسائط التواصل الاجتماعي؛ لأنها ما زالت لها تلك المصداقية التي يجب ألا تفرّط فيها، ولها ذلك الحضور الغالب في المناسبات والأحداث المفصلية، وعليها أن تفهم ذلك، ويمكنها أن تتحصن تجاه ذلك الوباء الإعلامي الجديد والوقتي الذي يقفز للسطح بسرعة، لكن الأعماق سرعان ما تجذبه إلى قيعانها التي لا ترحم، لأنه إعلام غير واثق من نفسه، وغير مسؤول، ولا مرجعية حقيقية تحمي ظهره، في حين أن تلك الصحف التقليدية قادرة على أن تهز المجتمع بين الحين والآخر، ولكن يجب ألا تعتمد على سمعتها، وعطر سيرتها القديمة، بقدر ما تعتمد على صورتها المتجددة، والمدعومة بتقنيات العصر المتحركة.