بقلم - ناصر الظاهري
خلال التجوال في المدن، سواء كان سفراً تنشد المتعة أو جزءاً من عمل أو أثناء المشاركة في المؤتمرات الثقافية واللقاءات الفنية، لا بد وأن تعثر على شخص مختلف، يشدك ذهنياً، ويكاد أن يسحبك من يدك، ولا يتركك تبرح جلسته، وإن فارقته تظل تراقبه من بعيد، فأجمل مشاهدات التأمل تلك التي تكون من بعيد، مثل جمال اللوحات الفنية، لا يشترط أن تعاملها بعين المتفحص أو الشاري، لأن عين المتذوق تختلف في قراءة الأشياء، والإحساس بالموجودات، واستنطاق ما يحيط به في الحياة.
مثل تلك الشخصيات تجدها متفرّدة ومغايرة، سواء في طريقة الملبس والهيئة، فيتخذ لنفسه شكلاً مغايراً ومميزاً، بحيث تظل الأسئلة تدور بشأنه وحوله، وهو يدرك ذلك، ويترك الأمر أكثر غموضاً، ويلعب على حب الفضول عند الآخرين، مستمتعاً بالحالة، كذلك تجد شخصاً مغايراً في طريقة التفكير، وطريقة التعبير عن آرائه، فيستهويك كلامه، ويظل يضيف لمعرفتك معارف شتى وأفكاراً مخالفة، ومن بين من التقيتهم في الأسفار الكثيرة شاب إنجليزي في مهرجان برلين السينمائي، منذ الوهلة الأولى أدركت أنه تعب على نفسه كثيراً، فهو كم من المعارف متنقل، ولديه الحس النقدي العالي، ويجيد الفرنسية بطلاقة، وربما يجيد لغة على الأقل واحدة ميتة، مثل اللاتينية، ولا شك أنه درس اللاهوت في مقتبل عمره، ولديه أسئلة كثيرة، لم يجد لها أجوبة شافية، تعمقت علاقتي به خلال أيام المهرجان، لكن الليل كان يغيبه، حينها شعرت بأنه فقد الأم مبكراً، وحدهم من تغيب الأم عن عيونهم في طفولتهم، يخافون الليل، سألني سؤالاً عميقاً ذا طبيعة فلسفية، كيف نشعر بالموجودات، ونستنطق الأشياء، وتصلنا روائح أمكنة قديمة أو بعيدة، فنشعر بها حيّة تسعى من حولنا، وأننا جزء منها؟ مؤكداً أن هذا ما استشفه بعد حضور فيلمي، بحيث كان للبحر ابتلال في القَدَم ، وكان لمشهد الجبال صعوبة في التنفس، وكان للصحراء الممتدة ورمالها وهج يعشي العين، ويجلب التعرق، وأن للرطب طعماً في الحلق، وللنخلة ظل بارد، ولتلك الطرقات الطينية في سكيك واحة العين رائحة الثرى، وتعب الأولين!
أعجبتني قراءته التي غاصت عميقاً في موضوع بعيد عن ثقافته فيما يخص «سيرة الماء والنخل والأهل»، لكنه طلب مني أن أجيبه خطياً على سؤاله، ولا أدري ماذا سيفعل بتلك الإجابة، فهو نبيه بما فيه الكفاية، وذو دلالة على الأشياء في عمقها، وربما رأيت فيه شبهاً في جزء مني، ولا عرفت هل أبدي شكري له على تلك الفكرة، وعلى تلك اليقظة التي بثها فيّ فجأة؟ أم أشكره على عمق التواصل، وقراءة الفيلم، ومنحي ذلك الإحساس بالموجودات واستنطاقها، وهي متعة جميلة لا أحب أن أتعب منها.. وغداً نكمل.