بقلم _ ناصر الظاهري
أحياناً تقول سأقوم بمكافأة نفسي بقضاء يومين في فندق لكي أغتسل من ساعات الجلوس الطويلة، لأنك لا تقدر على السفر، رغم حاجتك الضرورية له، فتنهض من نومك، وتتلقى خبراً من مسعدات الحياة الصباحية أن هناك رحلة تنتظرك، تكون أنت قد بلغت حد تعبك وهموم يومك، تطارد الوقت، وتريد أن تسبق الأشياء، تريد فقط أن تتنفس برئة خالية من مضجرات اليوم، وتفاصيل صغيرة تورث ليناً في العظام، وحين تأتي مثل تلك الرحلة كمكافأة سماوية، لا تريد أن تعرف الوجهة، ولا طبيعة المكان، هو سفر لغاية السفر، وهرب من ضيق المكان هنا، لأفق المكان هناك، فكيف والرحلة من تلك التي لا تدري بحقيبتك، ولا شيئاً عن تذكرتك، وكل شيء فيها يمشي بمقدار، ووفق معيار، ووسط جمع، وصحبة لا يكفي دمع العين لفراقهم.
هكذا كانت الرحلة إلى مدينة «بدروم» التركية، وشواطئها الزرقاء، وتلك الجزر المتناثرة، والجبال الخضراء، يطوف بك مركب تلتفت يمنة فإذا بتركيا على اليمين، وتلتفت يسرة، فإذا باليونان عن الشمال، وتريد أن تفعل شيئاً، فلا تجد غير أن السعادة حاضرة، وتكتفي بذلك التأمل، وهدهدة المركب، فتستحضر كلما هو جميل لحظتها، وتتمنى لو أن الوقت يدوم في «بدروم»، ومن مرسى إلى رصيف إلى مرسى، تنتقل محتضناً الفرح، وتلك اللحظات التي تتمنى لو أنها لا تنشد الهروب.
في البحر، وذلك البساط الأزرق الممتد حد نظر العين، تضيع منك كل مناكفات اليوم، فلا تتذكر أحداً بأذى، ولا ترجو من أحد رجاء، أنت ونشيد البحر، ودفء الفضاء، وظل السماء، وتتفكر كم هي الحياة أجمل، والدنيا أسعد من غير شر، ولا تبّيت ضر، وخلق الكراهية، وصنع الجفاء.
في البحر يكون القلب للإيمان أدنى وأقرب، وتكون العين من البصر للبصيرة أدنى وأقرب، وتكون الحواس من الصدق والأمانة والصبر، وفعل الإحسان أدنى وأقرب، ويكون العقل للتفكر والتدبر والخشوع أدنى وأقرب، أي سر في هذا الأزرق، وأي سحر للصمت، وعطر للكلمات، وأكثر! يعريّ الإنسان، فلا يكون إلا الروح، والنور، والجوهر.
لا الصباح هو الصباح، ولا الليل هو الليل، أي فيض، وأي تداعيات تحضر، كلما توغل بنا المركب نحو زرقة مظلمة، نودع شمساً في مغربها، ونستقبل شمساً في مشرقها، والجهات أفق، ولا تنتهي المسافات، هي المرافئ التي تجبرك على التوقف عن الصهيل، ومناغاة الريح، هي وحدها من تجعلك تحبس دمعة على فراق الأشياء، ودفء الأمكنة، وساعات قبض السعادة بأطراف الأصابع، وحدها التي تجعلك تشعر بذلك الإحساس قبيل المغيب بيتم الأمكنة، وهروب الليل داخل البيوت، والشعور بالوحدة الباردة التي تأتي وحدها دون المطر.
ليس أجمل من رحلات البحر التي يمكنها وحدها أن تأخذك عنك، وتهرب بك من نفسك إليك! وغداً نكمل..