بقلم - ناصر الظاهري
ضمن عشق المسافات في المدن التاريخية، ومحاولة صحبة الشتاء فيها، وتقفي أثر المطر على طرقاتها، تظل تتضارب مع تلك المطرية، ومع خيالاتك الماطرة، خوف أن «تجدي» عين موظف مستعجل أو تسحب شعراً مستعاراً لم يثبّت بعناية على جبهة أيقظها المطر أو تشبك معك مظلات حريمية ملونة، مصنوعة للزينة، ولا تحتمل كثيراً من دبيب الازدحام، فتبدو بمشيتك المتخالفة تلك، كأنك لاعب منتخب كروي ودّع الملاعب منذ سنوات طويلة دون أي إنجاز يذكر، كنت دوماً على خط متواز مع تلك المطرية التي ما حملتها يوماً وهطل المطر، ولا تركتها وحدها في جحرها قرب الباب، وعجزت عن حملها، إلا ودنّ الرعد وانهمر الغيث!
من مشكلاتي مع المطر في المدن الأوروبية غير المظلة، ما أنتعله، فحبي للامع منها، وذات الجلد الطري، يجعلني أنتقي للمداس أو الحذاء أماكن لم يغمرها الماء، فأبدو وأنا أتقافز من غُبّة إلى أخرى مثل راقص باليه سمين، نسي كل الدروس، وترك الاستقامة، أما حين نكون في الإمارات، وينزل المطر يصبح الواحد منا أشبه بطائر البطريق، يد على الرأس تحمي العقال، لأن العقال إن لان، لا يمكن أن يعود لصلابته الأولى، ويد ترفع الكندورة لئلا تسحب على الأرض الموحلة، وهذاك سير الواحد، دون أن يلتفت لأحد!
للمطر ومصادفته وصداقته في المدن التي نحب، هناك حكايات عند كل منا تروى، فجميل إن باغتك في مقهى، وأنت تحتسي قهوة الصباح الساخنة، وتشرف من نوافذه الزجاجية على الشارع أو يوقظ صباحك بحباته اللؤلؤية على تلك الشرفة الزجاجية التي تحبها مثل ملاذ للطائر، جميل أن تكون في مطعم للصيادين في بندر مدينة بحرية صغيرة، ويظل يناوش تلك المراكب والقوارب الصغيرة، ويجعل للبحر رائحة أخرى، رائع هو إن حضر في ليل باريسي مفعم بعطر امرأة، تتوكأ على كتفها كمحارب جريح، لا يريد أن يبرأ منها، ولا من جروحه، تتبع ظل عازف «ساكسفون» في تلك الزرقة المبهرة، وهو يبوح بما في صدره، وصدر آلته الموسيقية الباكية، بعض المدن إن جاء مطرها، جاء ومعه تلك الطفولة المبتلة بالمطر، زغزغة الماء الذي نسمح له أن يسلك من حلق الكندورة العربية، مدغدغاً الجسد ببرودته المفاجئة، والتصاقه بالثوب، مستخرجاً تلك الضحكات العفوية، والفرح النهاري الذي نتمناه أن يطول.
وحدهم أبناء المدن المرفهة والمستعجلون بتلك الانضباطية المملة، يرهقهم المطر إن حضر كضيف يخبئ مفاجأة حضوره، فتجدهم متبرمين، وربما قلقين، لأن للمطر إيقاعه، ويفرضه حضوره، لا يمكن أن يترك بقعة مبتلة دون أن يلعب بشيء من وقتها، وينزلها من هيبتها المتعالية، ويسيّر كل شيء فيها حينها وفق هواه، وإيقاعه المموسق بالبلل والريح الباردة، للمطر رائحته التي يتركها في الأماكن لتدل عليه، ثمة حياة جديدة ومختلفة يأتي بها المطر، ويأتي بها زهو حضوره في حياتنا وذاكرتنا وأسفارنا.