بقلم - ناصر الظاهري
يا.. ثاني.. لقد جف الحبر، ولم يجف ريق البحر، ثاني.. يا سعفة خضراء من نخيل «الصير» تهيف في غفلة منا، ثاني.. ذاك الجميل أول ما التقيته في اتحاد الكتّاب في أبوظبي منتصف الثمانينيات عند تأسيسه، كان يأتي بثوبه الأبيض حاسر الرأس أو متفرنجاً بلباس شعبوي، لديه تلك الفوضوية التي يحبها وحده، وكان لديه ما يقوله، وحين ينثر الشعر، كان يشعر الكلمات ويموسقها، كان جميلاً في الشعر، وفي ابتغاء الحياة، يصدم التقليديين، ويتحاشاه المحافظون، ويطرب له الهامشيون، كنت أقول له: «يا ثاني.. أكمل بيت القصيد، أكمل أي مشروع تبدؤه»، لكنه كان جموحاً، ولا يحب السكون، ولا يحب أن يتم الأشياء، إلا على طريقته، كان يطير بالشعر، ويحب أن يجنح بالمال، فلا الشعر يمكنه أن ينوّخ المال، ولا المال يصدق الشعر، كان مثل حاله، مثلما كانت سيارته القديمة الجاكوار البنية التي لا تجد مثيلاً لها في الشارع، غامر باتجاه الرسم والريشة واللون وزرقة البحر الأبيض المتوسط، ثم توقف، راح باتجاه «المعيريض» ورفيف سعف نخيلها وظلالها لكنه توقف دونها، وإن ظلت ساكنة فيه، كانت بغداد في طيف الحلم لكنه توقف دونها، دبي حيث.. حيث كان يمكن لهذا السائر في طرق لا يكملها أن يبلغ حلمه، ويستريح، لكنه أبى.. ثم أبى وتولى، دون أن يجعل من حلمه النهائي محطة قابلة لأنْ تخضر فيها كل الأشياء، لكنه ثاني، وثاني كان لا يُكفّي المرحلة، يحب الأشياء أن تنضج وحدها، وهو الشاهد والمشاهد، في كل المواقع التي اشتغل فيها، كان يريد لها الحداثة، وتلك الحماسة الوطنية، وكان يعتقد أن المتمترسين داخل قوالبهم، المتكلسين في أماكنهم يمكن أن يسمحوا له بالتجريب أو تفكيك النص أو العبور إلى ما بعد الحداثة، وحين يعيا منهم، وهو القصير النَفَس، يتركهم ويترك المكان، ليلوذ بنفسه وأصدقائه وأماكنه الساهرة بالمناقشات والقراءات والخلافات والاختلافات والتجريب والتغريب، وحين ترك أبوظبي لم أعد أراه إلا لماماً، لكن ذاك لا يمنع من السؤال، ومن الاشتياق، ومن التراسل عبر الوسائط الجديدة التي لم تكن سلوته، لكن قبل ذلك رأيته مرة في «لو ميريديان» أبوظبي بعد غياب، وقال: لقد طلقت الكتابة والشعر والحياة البوهيمية، مثلما طلقت الوظيفة، لقد أصبحت رجل أعمال حرّة، لم أدهش، لكن كنت أخشى أن يصيبه الملل بعد فترة، كشأن كثير من المبدعين، حتى ولو كان عملاً يحبونه، ولا يكمل ثاني بيت القصيد، فهمس في أذني برقم من ستة أصفار، وقبل أن يغادر قال: «أخوك يعجبك.. رغم تلك الثروة فأنا ما أزال أعشق الحياة الجميلة، والأشياء الساردة، ولوثة الشعر»! قلت في نفسي: ثاني لا يمكن أن يكون شخصاً ثانياً، سيطارده الشعر، ونغمة التجديد بالمطلق، وتلك الصعلكة الإبداعية، حيث يجد فضاءه، وسماء حريته.
بالأمس أيها الجميل.. من بين كثير من الأخبار التي كنا نتوقعها أن تصلنا منك وعنك من القاهرة، جاءنا نبأ نعيك، لتهدأ روحك بسلام، ولترقد النفس المطمئنة في سكونها الأبدي.. ثاني.. آه يا ثاني!