بقلم - ناصر الظاهري
جميل حين تصادف في المدن عيد ميلاد صديق أو عيد ميلاد المدينة، حيث يصادف اليوم الذكرى الواحدة والعشرين لتأسيس مدينة الآستانة التي بكل المقاييس حديثة وعصرية، وذات تخطيط وعمارة هندسية متنوعة، ويمكنك أن تختصرها في ثلاثة أيام، هكذا توحي لك لو كنت من رجال الأعمال، حاملاً تلك الحقيبة السوداء التي لا تعرف ما فيها، لكنك إن كنت تهوى المراكز الفنية والثقافية وتحب التظاهرات المعرفية، وتتذوق أطياب الحياة، فعليك التمهل، لأنك ستجد ضالتك في كثير من الأمور، بشرط صحبة أحد أهلها التي يغلب عليهم الطيبة والكرم والترحيب بالغريب، وتلك الابتسامة التي تحسنت بعد تلك الحقبة السوفييتية التي ما زالت تئن من وطأتها تلك الجمهوريات، ولعل من الشواهد الواضحة والحيّة في نفوس الكازاخ، لما تلقوه من القمع السياسي، والذي يمثله النصب الفضي المسمى «قوس الحزن» الذي بني تخليداً لذكرى النساء البائسات في معسكرات التعذيب «كولاغ»، وخاصة المعسكر الرهيب «الجير Alzhair» الذي قتلت فيه ثمانية آلاف امرأة، في الحقبة الستالينية، وكانت التهمة الجاهزة لتلك النساء أنهن زوجات رجال خونة، كانت تنتزع منهن الاعترافات بأن رجالهن على علاقة بالتخابر مع جهات أجنبية، وبالتالي خالفوا تعاليم الحزب، وخانوا الوطن، وأهانوا الأيديولوجيا، كانت نساء متعلمات وذات مهن رفيعة في المجتمع، لكن ذلك لم يشفع لهن أن يساموا سوء العذاب والإذلال الإنساني، وخلال تلك السنوات العصيبة كانت النساء تبني «بركس» أشبه بغرف الجيش في المعسكرات من الطين والقش، وتزدحم الأجساد فيه، في منطقة كانت تصل درجة الحرارة ثلاثين تحت الصفر شتاء، وصيفاً أربعين فوق الصفر، ولا يقدم لهن من الأكل إلا الحساء والبطاطا، ويساقون منذ الصباح حتى المساء في أعمال أشبه بعمال السخرة، ومساء يستسلمن للحراس، وإذا ما أنجبت الواحدة منهن طفلاً، يبقى معها ثلاثة أشهر فقط، بعدها يفصل عنها نهائياً في بيوت الأيتام، ولا يسمح لها بالاتصال به، لذا الكثيرون منهم خرجوا للحياة لا يعرفون أهلهم.
بعد تلك الزيارة إلى «الاجير»، ستخرج وأنت تحمل في رأسك تلك المأساة الإنسانية، وكيف يمكن أن يفحش الإنسان ويستأذب حد التحلل من إنسانيته وشرفه وكرامته.
لذا بعد تلك الزيارة، عليك أن لا تبقى في العاصمة والخير أن تذهب إلى المآتا أو تركستان الجميلة والبسيطة في كل شيء، لكن تجنب البعوض الذي يهجم عليك زرافات لا وحدانا، خاصة إن كنت تتحسس منه مثلي، وعليك إن كنت مثلي أيضاً أن تتجنب لحم الخيل وحليبه وخمره، لأنها من عاداتهم حين يرحبون بضيف يحبونه، ويرونه ممتلئ الخدود ويكاد يشبههم!