بقلم - ناصر الظاهري
نسافر.. وفي البال أشياء كثيرة معلنة، غير أن الشيء الوحيد غير المعلن، لكن تتركب عليه أسفار معظم الناس، وهو البحث عن السعادة، نسافر لنكون سعداء، وسعداء نحن حين نسافر، وإن غابت السعادة بحثنا عن طرقها، وأين يمكن أن تكمن، ربما يجدها البعض في الجلوس على مقهى على الرصيف، يتأمل في الوجوه الإنسانية بخياراتها المختلفة، الوجوه المتعبة، والفرحة، وعاشقة الحياة والوجود أو المنطوية على أحزان النفس وخساراتها، ربما يمسك بها البعض أثناء الدخول في حارة تاريخية قديمة، تجرّه لزمانها الموغل في التاريخ، وتسرب لرئتيه غبرة أحداثها ووقائعها، وربما دلّته على منابع العشق الذي يبحث عنه بصوفية صامتة، البعض الآخر يكفيه الشعور بأنه حر، لتبدو السعادة مكتملة أمامه، ولا يكتفي حتى تأخذه السعادة بيديه قاصدة أوجه الخير التي يحبها، ولا يعرف كيف يمكن أن يجدها.
ذات سفرة في مدن الله الكثيرة، رأيت ما يشبع العين، وما يمتع النظر، وما يجعل النفس راضية مطمئنة، رأيت أناساً سعداء، فأسعدوا لحظتي، رأيت أناساً يبكون فرحاً، ويوزعونه على الناس، فتتلون الحياة بهم وبكرمهم، رأيت أناساً يتعثرون بمفاتيح السعادة في طرقهم، غير أنهم لا يتعرفون عليها، وكأنها أحجار عثرة في الطرقات، رأيت أناساً تُسرق منهم السعادة بأشياء صغيرة، فلا يقدرون على استعادتها ثانية، ورأيت أناساً يستوردون الحزن لدنياهم، لأنهم لا يعرفون ما يملكون، لكن ذات مرة، في ذات سفرة، في إحدى مدن الله الكثيرة، رأيت رجلاً سعيداً، ويضفي عليه جلباب الفرح في كل التفاصيل والأشياء الصغيرة، فحدثني قائلاً حتى توهمت أنه قريني من الإنس يحادثني:
هكذا هي السعادة صعب أن لا تظهر تباشيرها على الوجه، كما الحزن لا يمكنه أن يجعل الوجه متورداً، وتلك السحابة السوداء أو الرمادية تظلل الرأس، وتجثم على الصدر، ولأن السعادة مفاتيحها صغيرة، يمكننا أن نجدها في كل جيب، ونعثر عليها في الطرقات، لكننا نصر على البحث عنها، ونحن مغمضي العين والقلب: سعادتي متجددة، متواصلة، بعد أن نجوت من الحرب التي خضتها صغيراً، ولم أكن أعرف ما هي الحرب، قيل لي يومها دفاعاً عن الوطن، وفي سبيل التحرر، كنت صغيراً، ولم أكن واعياً بدوري الوطني، ما أعرفه ولا أريد أن أتاجر به، أنني حملت السلاح لأنجو بنفسي من معارك في أوحال الغابات دامت سنوات، قتل أصحابي
العشرة، وبقيت أنا ورفيق السلاح الوحيد، اجتزنا السهول والوهاد، خضنا النهر الموحل، وأكلنا كل شيء لنبقى على رمق أخير من الحياة، ثم مشينا لشهور حتى مدينتنا، وحين وصلناها كانت
لحرب وقتها قد أوقفت طبولها، كنت حينها سعيداً بلا حدود، وحين دخلت بيتي الصغير، ورأيت أمي وأبي أحياء، سعدت أكثر، وحين أتذكر أنني ما زلت أمشي بصحة، وعلى قدمين صلبتين، أبقي على إحساسي بالسعادة الدائمة.. وغداً نكمل.