بقلم : علي أبو الريش
في البدء كنت صامتاً، ثم متأملاً، ثم متسائلاً، ثم رافضاً للإجابات الجاهزة.. أنت في عزلتك تكون أنت من دون علائق تاريخية ولا عوائق مستقبلية، اللحظة هي موئلك، وهي مغزلك، وهي منفذك، وهي رحلتك إلى حيث يسكن الأنا، ولا تسأل عن الحقيقة، فهي تحيطك وتطوقك وتلبسك وتلونك وتشكلك، إنها الحياة.
عش الحياة كما هي لا كما يريدها الآخر، وإذا فعلت ذلك، فإنك لن تحتاج إلى مساحيق التجميل، ولن تضطر إلى ارتداء جلباب غير جلبابك، في العزلة سوف تكتشف ذاتك ويغيب عنك الآخر، الآخر الذي يريدك أن تكون نسخة منه أو ظلاله.
عليك أن تهجر الماضي بكل تفاصيله وفواصله ونواصيه وزواياه، لأن في أزقة الماضي تسكن الكثير من الطيور الجارحة، وكذلك عتمة رهيبة، لا تفكر في الآتي لأنه قد يتعبك النظر إلى البعيد وتحتاج إلى مجهر دقيق، هذا المجهر قد يخدعك ويقرب إليك البعيد الذي لن تستطيع لمسه.
أنت في العزلة تفكر بحرية ومن دون ضوضاء أو ضجيج، تفكر بصفاء ونقاء، تفكر لكي تنظف الشجرة القديمة من الأوراق الصفراء، ولكي تقنع نفسك أنك ليس محور الكون بل إن في هذا الفضاء الفسيح والتضاريس الشاسعة، شركاء، بعضهم بغيض، والآخر سلبي، وبعض البعض يحاول مجاراتك، وكل هؤلاء لا يخدمون قضيتك الوجودية، لأنهم يعانون من تشرذم الذات، فعليك إذاً أن تقف عند جبال عزلتك أو في غرفة وحدتك أن تعلن التحدي للذات المشحونة بالمخلفات والنفايات وبقايا مواد سامة تركها التاريخ وذهب بعيداً.
عليك أن تواجه نفسك بنفسك، عليك أن توقظ الطفل في داخلك، لأنه الأقدر على العفوية، والأجدر على الذهاب إلى العالم بأدوات الفطرة النبيلة، فالطفل الذي يسكنك يناديك، في كل لحظة، وأنت ترفض بتعالٍ وجبروت، ترفض لأنك تعتقد أن الطفولة نقصان في التفكير ومن هنا تبدأ المعضلة وتكبر المهزلة.
عليك فقط الاعتراف بطفولتك، بالطفل العبقري الذي هجرته منذ زمن ثم خاطب العالم بلسانه وعقله، ستجد الأشياء من حولك تتغير، والأزهار تتفتح، والأشجار تؤرق باخضرار رهيب، والأنهار تجري من حولك، والطيور الحالمة تهفهف حول رأسك، والإنسان الذي كرهته أو اتخذت منه موقفاً عدائياً يبدو أمامك وكأنه الكف المخضب بحناء الفرح، يهديك ابتسامة أشف من رقراق الماء وأعذب من سلسبيل العيون.
خذ قرارك وانتهج عزلتك وصمتك، ستأتيك الأشياء السعيدة طواعية.