علي أبو الريش
أصبح من البديهي جداً أن تشاهد مسلسلاً خليجياً يعج بجرائم القتل والاغتصاب وتعاطي المخدرات والطلاق، وقد يقول قائل إن هذه الظواهر مشاهدة ومعيشة في الواقع فلماذا الاستغراب؟ نقول: ظواهر كثيرة موجودة على أرض الواقع، ولكن هذا لايعني أن كل ما نشاهده يصدر بحقه قرار الانتشار، لانتشار الوباء في الجسد، فالفن رسالته معينة جداً بالتعاطي مع الواقع بأسلوب يتلاءم مع دور الفن في الاعتناء جداً بالظواهر، والولوج في شبكاتها المعقدة ببصر وبصيرة من دون النقل الحرفي، فالحل في هذه المعضلة يكمن في وضع الصورة المتخيلة التي ترسم خطاً بيانياً باتجاه علاج المشكلة وتبيان أضرار هذه الظواهر من دون الخوض في تفاصيل المثيرات التي تنبه غرائز المراهقين، وتوقظ حواس لا يجب المساس بها، فعندما يجتمع ثلة من الممثلين في بيت أحدهم ويرتبون جلسة سمر مشحونة بدخان وأشجان وإدمان، ويعبر هؤلاء الممثلون عن أبناء رفضوا حياة الأسرة القمعية فاندمجوا مع رفاق السوء وساروا في الانحراف حتى آخره، ثم لا يعطينا كاتب القصة ولا المخرج، ما الهدف من إظهار هذا المشهد دون الإفصاح عن نتائج وكذلك أسباب، ما يجعل المشهد وكأنه صنع خصيصاً فقط للإغراء ودفع كل من يشاهده إلى تقليد ما ر
آه دون تبصير.. فلا أحد ينكر أن كل الظواهر السلبية موجودة في بلداننا كما هي موجودة في سائر بلدان العالم، فلسنا ملائكة ولا نحن في عصمة من هذه الأدوار الخطيرة، ولكن ما نريده من الفن أن يرقى بمشاعر الناس وأن لا ينجرف نحو الأفلام، والمسلسلات التي تهب رياحها من كل حدب وصوب، نريد من الفن أن ينظف ساحته من اللاوعي الذي يغوص فيه بعض المنتجين والمؤلفين والمخرجين وأن يعبر عن ضمير الناس.. وأن يكون عوناً للضوابط المجتمعية التي تحاول أن تحد من هذا الفن وتمنع تسربه إلى عقول البشر، وأن يحذر هذا الفن ويحرص على التلامس مع هذه الظواهر بحذر وحيطة حتى لا يفلت الزمام وسط الزحام، ويغيب عن أذهاننا أين موقع الفن من الظواهر المجتمعية.. ولا نريد أن يبخس حق البعض الآخر الذي يناضل ويبذل جهداً من أجل صناعة فنية راقية وبأدوات رائعة، تحقق الأهداف السامية للفن وتنجز مشاريعها الحضارية بإتقان واتزان وأمان.
الفن الرفيع هو الفن الذي لا يغمس أصابعه في براثن الواقع، وإنما يضع لمساته الحانية على عبارات تخدم الأهداف وتذهب بمشاعر الناس نحو السمو والرفعة والسؤدد، الفن الرفيع هو الفن الذي يضع في الاعتبار مدى تأثيره على الناس كونه يدخل في كل بيت كما يدخل في كل قلب.. الفن وسيلة وليس غاية وإذا بارت الوسيلة تهدمت أسقف الغاية فحطمت الرؤوس ودمرت النفوس، وأطاحت بالقوانين الحياتية وفاض زبدها وخاض المهرولون ممن ينتمون إلى الفن في خرائب ومستنقعات.. الفن الرفيع هو امتياز الفنان المبدع والمرهف والخلاق والذي لا يعتبر الفن أداة للكسب، وإنما هو فن إشباع الروح وتأكيد الوجود.