بقلم:حنا صالح
كانت لافتةً مسارعة طهران للتأكيد أن لا قتلى إيرانيين في الغارات الأميركية على «مواقع» لـ«الحرس الثوري» في سوريا والعراق، انتقاماً للقتلى الأميركيين الثلاثة الذين استهدف موقعهم في شمال شرقي الأردن وتعهدت واشنطن بالثأر لهم... فللإيرانيين «أضاحي» بديلة!
سيقال الكثير ويكتب الكثير عن نوعية الرد الأميركي، ومحاذرة واشنطن استهداف «الحرس الثوري» مباشرة أو مواقع داخل إيران. ولا يبدل شيئاً من المشهد قول مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان بأن ما حصل كان الضربة الأولى. وسيقال الكثير عن الفاصل الزمني بين استهداف الأميركيين والرد على الاستهداف، الذي منح طهران كل الوقت لإجلاء ضباطها ومستشاريها من سوريا... إلى كشفها عن ممارستها قيادة أذرعها في المنطقة من بعد، متكئة على دور ميليشيا «حزب الله»، التي تمثل العمود الفقري في استثمارات طهران نشر وكلاء لها في طول وعرض منطقة شرق المتوسط واليمن.
القرار الإيراني أعاد تسليط الضوء على حجم مشروعها التدميري في المنطقة، مشروع «وحدة الساحات» للدفاع عن نظام الملالي وعن مصالحه التوسعية وأهدافه بترسيخ معطيات إقامة «إيران الكبرى». باكراً رسم الخميني هذا المنحى بالإعلان عن جعل يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان جمعة القدس. رفع التحدي بوجه الفلسطينيين والعرب، وأقدم نظام الملالي خلال العقود الأخيرة، وتحديداً ما بعد عام 1984 تاريخ تأسيس «حزب الله»، على إنشاء ميليشيات مذهبية في المنطقة، مع تسجيل فشل جهود «التشيع» في السودان ومصر. وكان إسقاط نظام صدام حسين وإعلان «بريمر» حل الجيش العراقي هدية لإيران لا تقدر بثمن.
سرعان ما تحولت هذه الميليشيات إلى جيوشٍ رديفة وحتى بديلة، مع إمساك طهران بالقيادة الاستراتيجية. ثم تتخذ هذه الميليشيات من تحرير القدس واستعادة الأقصى والإمساك بالقضية الفلسطينية شعاراً شكلياً، فراحت تُخوِّن وتُحاكم على النوايا، لتغطية حروب زعزعة الاستقرار في المنطقة، بوصف ذلك بوليصة نشر الهيمنة، لتقدم أكثر فأكثر عنوان مجابهة الوجود العسكري الأميركي والنفوذ الأميركي!
حدث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، يوم إطلاق «طوفان الأقصى»، أرعب تل أبيب وأقلق واشنطن و«الأطلسي» وأخاف طهران. لكن الميدان، والمنحى الذي اتخذته حرب التوحش الصهيوني على غزة، وما بدأت تثيره من نقاش وطروحات عن «اليوم التالي»، دفعت طهران إلى فتح «ميني» حروب متنقلة لخدمة مخططها كان ذروتها الاستهداف المباشر للأميركيين، ربما لإحباط المنحى السياسي الآخر الذي فرضه «طوفان الأقصى» مع ثمن مخيفٍ يدفعه الشعب الفلسطيني في غزة!
صادم هو المشهد في القطاع ومرعب للمشروع الإيراني، مع كشف مصادر مستقلة أن عدد الضحايا يفوق الـ50 ألفاً، والدمار طاول 60% من إجمالي المنازل، إلى إقدام جيش الاحتلال على فرض منطقة محروقة مع اقتطاعه مساحة بعمق كلم تفوق نسبة الـ15% من مساحة القطاع، فضلاً عن الاقتلاع والتهجير والمجاعة... إنه وضعٌ أقلق طهران، التي أدركت أن حرب التدمير قوّضت الكثير من قدرات «حماس» ما يهدد بشطب الحلقة الفلسطينية في المحور الإيراني، فرفعت مستوى المجابهة غير عابئة بتراكم الدمار في جنوب لبنان والتهجير المتزايد لسكانه، وكذلك ما هو حاصل في مناطق هيمنة الميليشيات الحوثية في اليمن!
حتى تاريخه تصعيد المجابهة اتخذ طابع «ميني» حروبٍ متنقلة تجاوزت غزة وفلسطين، ونجح أطرافها رغم اتساع المواجهة في محاذرة الانزلاق إلى حرب إقليمية، لا يعلم أحد إن وقعت ماذا سيسفر عنها وإلى أين تصل بالمنطقة والعالم؟ ويبدو أن هذا المنحى ذاهب إلى تصعيد أكبر بموازاة الحراك الدبلوماسي الأوروبي والأميركي والطروحات - المبادرات بشأن حل الدولتين، المقلقة لنظام الملالي كما لنتنياهو والقيادة الصهيونية: مبادرة جوزيف بوريل، والمبادرة البريطانية وجولة ديفيد كاميرون إلى ترويج «نيويورك تايمز» لما وصفته بـ«عقيدة بايدن» استباقاً للجولة الخامسة لأنتوني بلينكن...
أقلقت هذه المعطيات طهران لأن من شأنها أن تسحب من بين أيديها ورقة القضية الفلسطينية التي توسلتها لتهشيم دول المنطقة ومدِّ هيمنتها وترسيخ وجودها. فإن تقدم فعلاً هذا المنحى نحو الحل السياسي الجذري، ولم يكن مجرد سيناريو دعائي للاستهلاك حتى تمرير الانتخابات الأميركية، فهذا الوضع سيضعف الدور الإيراني ويجعل من أكثر أذرعها جماعات من دون شغل وإلى حدٍّ كبير فئات خارجة عن القانون!
لكن المتاح لا يبدو أنه يحمل رؤية أميركية متبلورة للمنطقة رغم اتساع معسكر السلام. هناك عجز عن فرض خطٍ أحمر يمنع الاعتداءات المباشرة ضد القواعد الأميركية، وكذلك وقف النزيف الفلسطيني ومنع تل أبيب من إسقاط اللاءات الأميركية... فيما الخوف مقيم من أن يكون مشروع التسوية الفعلية مجرد طرحٍ ضبابي، لأنه إذاك سيمنح «محور الممانعة» الفرصة لإعلان «نصر إلهي»(...) وها هو الشيخ نعيم قاسم يقول: «نستطيع أن نعلن نصر المقاومة من الآن، وأي وقت إضافي هو هزيمة إضافية لإسرائيل»(!!) في تجاهلٍ خطير لتبعات «المشاغلة» وارتداداتها المدمرة، ومخطط ربط الوضع اللبناني بغزة الذي وضع لبنان أمام معادلة مروعة من أي انزلاق قد يفضي إلى نهاية البلد المستباح والمخطوف القرار.