بقلم: عبد المنعم سعيد
فى وقت قراءة المقال ربما تكون ظروف كثيرة قد تغيرت، سواء فى الإطار الإقليمى لمصر، حيث تستعر عواصف تتجمع فى شكل عاصفة كبيرة تزيغ النظر، أو فى داخل مصر كلها حيث الأخبار غير السعيدة كثيرة لا تلبث أن تلفها أفكار تآمرية تجعل الشائعات تختلط بالحقائق التى لا يكفى ما هو متاح منها لتبديد غيوم كثيرة. الفترة الأخيرة أسفرت عن نتائج وتراكمات سلبية على الدولة المصرية فى شكل أزمتين: الأولى ذات طبيعة «جيوسياسية» و«جيواستراتيجية» تهدد الأمن القومى للدولة، وتظهر الآن فى التهديد الناجم عن محاولات التهجير القسرى للفلسطينيين إلى صحراء سيناء، وتهديد الملاحة الدولية فى البحر الأحمر ومن ثم قناة السويس والتى حققت خلال العام ٢٠٢٣ دخلا قدره ٩.٤ مليار دولار، وكان متوقعا تجاوزها إلى أكثر من ١٠ مليارات دولار خلال العام ٢٠٢٤ لكن ذلك بات بعيد المنال. والثانية أزمة اقتصادية تتعلق بسعر الصرف، والعجز فى كافة المقاييس الاقتصادية تضغط على الحكومة المصرية، وعلى المواطنين المصريين بالتضخم وارتفاع الأسعار فى الطاقة والسلع الأساسية.
الحقيقة هى أن هذه الحالة العاصفة لم تنته بعد، فما أتت به الأنباء خلال الساعات الماضية يقول بزيادة إحكام الأزمة الخارجية التى تتقدمها الأزمة فى غزة وتوابعها. ورغم وجود محاولات لوقف جزئى لوقف إطلاق النار تبذل فيها مصر جهدا فائقا، فإن الحرب لا تزال مستمرة، كما أن نتنياهو لا يزال مصمما على التحرش بمصر فيما يتعلق بما يسمى محور فيلادلفيا، والإشارة إلى أنه لم ييأس بعد من النجاح فى دفع الفلسطينيين للتهجير القسرى فى الاتجاه المصرى.
.. الجبهة اللبنانية الإسرائيلية تزداد اشتعالا وبات هناك إصرار إسرائيلى على الدفع بقوات حزب الله إلى ما وراء نهر «الليطانى»، وفى هذا المسعى فإن قرابة نصف مليون لبنانى اضطروا إلى الهجرة إلى الداخل اللبنانى. وإذا عرفنا أن هناك مثيلا لهم اضطروا إلى الفرار من شمال إسرائيل إلى وسطها نتيجة الضغط العسكرى لحزب الله لعرفنا كيف انفلت العقال من عقاله. فى جبهة «المشرق العربى عامة» تعرضت أهداف أمريكية إلى ١٦٠ عملية عسكرية، كان آخرها تلك التى جرت على الحدود الأردنية السورية. ردت واشنطن على كل العمليات السابقة، وفى العملية الأخيرة التى قامت بها «كتائب حزب الله العراقى» تنتظر الرد الذى يدفع فى اتجاهه رأى عام أمريكى فضلا عن مؤسسات سياسية وعسكرية. الحرب التى يشنها جماعة أنصار الله (الحوثيون) فى اليمن استمرت على هجماتها التى عوقت الملاحة الدولية، وعمليات المرور فى القناة. ولكن مؤخرا أضيف لها احتمالات قيام الحوثيين بالهجوم على «الكابلات» البحرية التى تمر من خلالها الاتصالات الدولية أيضا.
العاصفة تزداد عنفا إذا ما أضيف لها التطورات الجديدة للأزمة السودانية التى تشير إلى اتساع الصدام ما بين الجيش الوطنى وقوة «الدعم السريع» لكى تشمل مناطق كثيرة فى السودان يجرى فيها العنف إلى الدرجة التى جعلت قرابة تسعة ملايين سودانى يتركون مواطنهم. ودون الدخول فى الكثير من التفاصيل فإن الأزمات الأخرى قلقة كما هو الحال فى ليبيا، ومزمنة كما هو الحال فى سوريا، ومقلقة كما هو الحال فى العراق حيث يجرى تهديد الدولة الوطنية من قبل فرق وجماعات داخلية وخارجية. المزعج أكثر أنه بينما تزداد جذوة الاشتعالات فى الإقليم الشرق أوسطى فإن النظام الدولى يبدو إما مراقبا فى حذر من الصين وروسيا، أو مترددا وعاجزا عن اتخاذ القرارات فى الولايات المتحدة. واشنطن باختصار تعلم أنها لم تكن تريد العودة إلى الإقليم مرة أخرى وهى التى زعمت فى ظل الإدارة الحالية أنها خرجت منه؛ ولكنها الآن تعلم أنها فقدت قوة الردع اللازمة لمكانتها الدولية، ومن ثم بات عليها أن ترد على ما تتعرض له من تهديدات فعلية أو مرتقبة. المؤسسات الأمريكية تتراوح ما بين أعلى درجات الصدام بضرورة ضرب إيران، وطهران تحديدا، ومعها القدرات النووية الإيرانية؛ والرد الدفاعى المكافئ لما تعرضت له قواتها من هجمات. الاحتمال الأول يأخذنا إلى حرب إقليمية شاملة، والثانى يشجع قوى متطرفة فى السيطرة على قرار الحرب والسلام فى الإقليم.
مصر التى تقع وسط هذه العواصف المتراكمة تدخلها بعد أن أسست لمشروع وطنى واسع النطاق ولكنه لم يكتمل بعد، وبالتالى فإن أعباءه واقعة على الأكتاف المصرية ما لم يتم العض عليه بالنواجذ وتشغيله بكفاءة اقتصادية أكثر من أى وقت مضى. لقد جرى الحديث مرارا وتكرارا عن ضرورة «تشغيل التغيير» الذى حدث ولكننا لا نستطيع أن نفعل ذلك بنفس الأدوات والأشخاص الذين ساهموا فى تغيير الأحوال ولكنهم بعد ذلك وقفوا مندهشين ينتقلون من وثيقة إلى أخرى حول إعادة النظر فيما لا يجدى من تقدم، ومن حوار وطنى إلى حوار آخر لا يعلم أحد كيف سوف يكون مختلفا عما سبق. هذه مرحلة وتلك مرحلة أخرى من البناء الوطنى ولا يجوز الخلط بينهما ونحن نبدأ فترة رئاسية جديدة ومعها مشروع لجمهورية جديدة أيضا هى التى سوف تأخذنا إلى العقد التالى. ما جرى من قبل تميز بالكثير من الجرأة والشجاعة التى أثارت الدهشة وهى تأتى بأحلام قديمة وتضعها موضع التنفيذ. ولكن بقاء الأحلام القديمة عند حدودها الإنشائية لا يدفع عمليات التنمية والتقدم إلى الأمام وإنما يضيف إلى الكثير من رأس المال الميت فى الدولة الذى قد يثير الإعجاب، ولكنه لم يخل من أسف لأن المشروعات لم تتحول إلى خلايا حية تضيف ولا تخصم.
خارجيا فإن مصر ساعية إلى خلق تجمع من الدول الراغبة فى الاستقرار الإقليمى للتعامل مع الأزمات الحادة التى تواجه الإقليم. وهذه تسعى إلى تخفيض حرارة الأزمة المحورية فى غزة، وتدفعها أكثر إلى مجال التسوية الدائمة من خلال مشروع حل الدولتين الذى بات عليه توافق دولى، حتى إن بريطانيا نوهت عن استعدادها للاعتراف بالدولة الفلسطينية. ولكن ذلك يحتاج جهدا فائقا لكى يكون أولا هناك استعداد فلسطينى للتعامل مع كيان سياسى وليس تجمعا للمليشيات؛ وثانيا وطالما أننا نريد حلا للدولتين فإن معناه التعامل مع الدولة الإسرائيلية بكل مكوناتها. والحقيقة أنه أيا كان التقييم الذى جرى لوحشية إسرائيل وما حدث خلال الشهور القليلة الماضية، فإن إسرائيل لم تعد كما كانت فى الداخل، ولا باتت كما أصبحت فى الخارج. وعندما يقوم مجلس مدينة شيكاغو وآخر فى سان فرانسيسكو بمطالبة الدولة الأمريكية بوقف فورى لإطلاق النار فى غزة، فإن ذلك يعنى أن هناك فرصا كثيرة