كارثة العجمة

كارثة العجمة

كارثة العجمة

 صوت الإمارات -

كارثة العجمة

بقلم - سوسن الأبطح

مهرجان للسينما يقدم عروضه على مدار أيام متواليات، في بيروت، ويلقى قبولاً حماسياً من الشباب، أفلامه أجنبية، وهي الغالبة على البرنامج بدون أي ترجمة عربية. المنظمون يفترضون أن الحضور يجيدون بشكل ممتاز اللغتين الإنجليزية والفرنسية التي تنطق بها الأفلام، أو مترجمة إليها في حال كانت بلغة ثالثة. لم يعترض الجمهور، ولم يسأل عن السبب، وكأنما لم ينتبه أحد. من لم يكرمه الله بغير لغته العربية، يبدو مطروداً من الجنة الثقافية في بيروت. هذا أمر عجيب! الأغرب، أن تبدأ الجمعيات وبعض المؤسسات الثقافية، بإرسال بياناتها وبرامجها ومراسلاتها للصحافيين بالإنجليزية، على اعتبار أن إجادة هذه اللغة من البديهيات، مع أن لبنان يفترض أنه بلد فرنكوفوني. الأسوأ، حتى إن كان الصحافي بلبلاً بعدة لغات، فهو، والحالة هذه، يصبح مضطراً لأن يتحول إلى مترجم لا مجرد محرر، ويحاول أن يفهم ما وراء السطور، وكيفية كتابة الأسماء التي ترده، وأسماء النشاطات، وأشياء كثيرة، بالعربية. وهو قد لا يخرج من تخمين كل هذا سالماً. وإذا ما أخطأ في كتابة اسم شخص ما بالعربية، وهذا يحدث مراراً، فسيتلقى اتصالاً توبيخياً ويشعر بالذنب، بدل أن يعتذر أصحاب البيان الأجنبي عن خطئهم. ولا تستغرب أن يصلك بيان صحافي بالعربية، تعرف للتو، أنه ترجمة «غوغل»، وأن فهمه مستغلق على من أرسله. فالأصول تكتب بالإنجليزية، على الأغلب، إما لأنها توجه لممولي الأنشطة الغربيين، أو لأن المنظمين بكل بساطة لا يعرفون العربية بما يسمح لهم بالكتابة.
أما إذا اضطررت إلى الذهاب للمستشفى، فالأطباء الشباب، سيجدون صعوبة في شرح حالتك، وإفهامك أوضاعك، إن لم تكن ضليعاً بغير لغتك الأم. وتلك قصة أخرى. لعلي ارتكبت جريمة حين تحدثت لطبيب عن «الحجاب الحاجز» الذي يمكن أن يتسبب في ضيق تنفس، فما كان منه إلا أن نظر إليّ باستغراب، وعينين واسعتين، وقال: «هل تقصدين كذا؟!» مترجماً الاسم بالأجنبية، لأبدو وكأنني خارجة للتو من العصر الحجري.
كل هذه العجمة عند الجيل الجديد، لا تقطع فقط العلاقة بين نخبة تدور في فلك ذاتها، ومجموعات أخرى لا تجد السبيل للتواصل معها، بل تجعل كل جيل يتحدث لغة مختلفة عن الجيل الذي يليه، وكأنهما في كوكبين لا صلة بينهما سوى ما تبقى من محبة وعطف.
ولمن لا يزال على معرفة بلغته العربية بالمعنى الحرفي، فهو ليس كذلك بالمعنى الفكري. حين يخبرك ناشرون بأن العرب عموماً، باتوا يفضلون الكتاب المترجم، ولا يثقون بالمؤلف العربي وأن نصف الكتب، على الأقل التي تخرج من المطابع، ويقبل عليها الشراة، هي لكتّاب غير عرب، وأن المؤلف العربي لم يعد محبوباً ولا مرغوباً، كما أيام كبارنا الذين كان يتهافت المعجبون على تواقيعهم، ويقفون بالطوابير، في معارض الكتب، لينالوا إهداءهم، فإنك أمام أزمة مستفحلة، ليس حلّها بالأناشيد والشعارات التي تشجع على حب الضّاد.
يكفي أن تقف في مكتبة بشارع الحمراء، الذي عُرف تاريخياً بمقاهي المثقفين، وأجوائه الوطنية والعروبية، فتسمع الباحثين عن كتب، يسألون متى تصل ترجمة آخر رواية لإيزابيل الليندي، أو إليف شافاك أو هاروكي موراكامي، حتى لتظن أن هؤلاء باتوا من أبناء جلدتنا. قليلاً ما يدخل أحدهم ليسأل عن روائي عربي بعينه، يتابع أعماله، وينتظر نتاجه.
«هناك أزمة ثقة، بأن تكون العربية قادرة على القيام بواجبها تجاه أهلها» بحسب رنا إدريس، وهي ناشرة مجتهدة، ولها باع، يؤهلها لأن تعرف كيف تشخّص الداء. «انعدام الثقة بالكتب متأتٍ من ضعف النقد» كما يقول حسن ياغي مؤسس «دار التنوير» وهذا له أسبابه أيضاً.
فمنذ أصبحت الصفحات الثقافية خاضعة للشللية، يتبادل الأصدقاء على صفحاتها مدائحهم، ظناً منهم أن طريق النجاح يبدأ من هنا، ومنذ اعتاد المؤلف على التمجيد والتبخير، وصار نقده، ولو بلطف ورِقة وغاية في اللياقة، سبباً لأن يشهر سكاكينه، ويعلن عدوانيته، على الناقد، أصبح توصيف الكتاب والحديث عن محتواه، أفضل السبل لدرء خطر الفتنة، وإشعال نيران الغضب. وهكذا لم يعد للقارئ من مرجعية يثق بها ويركن إليها، ولا للكاتب من يحاسبه أو يراقبه، أو يسدي له نصيحة. تشتكي دور نشر كثيرة من صدود الأدباء عن الأخذ بأدنى توصية أو نصيحة توجه لهم، لتعديل ولو طفيف في نصوصهم. الغالبية تظن أنها أكبر من أن تعيد النظر فيما كتبت. وكأنما كلماتهم لا تمس.
خلل ثقافي يشبه الزلزال، ضارب في كل زاوية. دخلنا في حلقة جهنمية شارك في نسج خيوطها الجميع، وتآمروا على أنفسهم. المدرسة على طلابها، والأهل المتفرنجون على أبنائهم، والنقّاد على أصدقائهم الأدباء حين مدحوهم بما ليس فيهم، والأديب على نفسه، حين رفض أن يقيّم أو يستمع لأدنى ملاحظة على عمله. تآمرت الصحيفة على نفسها، حين أعدمت صفحاتها الثقافية وبُعدها الفكري، أنهت وجودها، وباتت مرهونة للأخبار السياسية وتحليلاتها التي تدور في البؤرة نفسها. اللائحة تطول، وما نراه من عجمة وبلبلة في اللسان والأذهان، وعجز عن الحوار، وخواء في الأرواح، ليس إلا انعكاساً بسيطاً، لما هو أبعد غوراً في عمق الوجدان.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كارثة العجمة كارثة العجمة



GMT 02:30 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

السادة الرؤساء وسيدات الهامش

GMT 02:28 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

«وثائق» عن بعض أمراء المؤمنين (10)

GMT 02:27 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

من يفوز بالطالب: سوق العمل أم التخصص الأكاديمي؟

GMT 02:26 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

روبرت مالي: التغريدة التي تقول كل شيء

GMT 02:24 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

السعودية وفشل الضغوط الأميركية

GMT 20:03 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 08:02 2016 الثلاثاء ,01 آذار/ مارس

جورج وسوف يستقبل أحد مواهب"The Voice Kids" فى منزله

GMT 02:49 2017 الجمعة ,06 تشرين الأول / أكتوبر

وصفة صينية الخضار والدجاج المحمّرة في الفرن

GMT 14:30 2017 الخميس ,05 كانون الثاني / يناير

صغير الزرافة يتصدى لهجوم الأسد ويضربه على رأسه

GMT 10:56 2021 الثلاثاء ,23 شباط / فبراير

إذاعيون يغالبون كورونا

GMT 12:44 2020 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

الريدز ومحمد صلاح في أجواء احتفالية بـ"عيد الميلاد"

GMT 07:32 2019 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

نيمار يقود باريس سان جيرمان ضد نانت في الدوري الفرنسي

GMT 00:59 2019 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اتيكيت تصرفات وأناقة الرجل
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates