تُبرز مأساة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المستمرة، حقيقةً مجردةً مؤلمةً: دماء الفلسطينيين عملة سياسية ملائمة، تُستخدم من قِبَل مستثمرين كُثر، بصرف النظر عن مصالح الضحايا. لطالما كان الأمر كذلك، بخصوص توظيف القضية الفلسطينية للكسب السياسي والاستراتيجي، بيدَ أن قسوة هذا الواقع استفحلت مع ارتفاع وتيرة التوحش في حرب غزة الجارية.
ضُبطت «حماس» خلال العملية الأخيرة لتحرير الرهائن الإسرائيليين من مخيم النصيرات، متلبسةً باستخدام الفلسطينيين دروعاً بشرية، حين تبين أنها أخفت 4 من الرهائن بين بيوت المدنيين. حصل ذلك مراراً في أكثر من واقعة دموية خلال هذه الحرب. حسابات «حماس» بسيطة: لو ارتدع الإسرائيليون عن عملية معروف سلفاً أنها ستؤدي إلى إصابات كبيرة بين المدنيين الفلسطينيين، فستتمكن «حماس» من الاحتفاظ برهائنها كورقة ضغط. ولو تجرأت إسرائيل على تنفيذ عملية تحرير دموية، كما حصل بالفعل، فإن حمَّام الدم المتوقع سيوظَّف لتوليد مزيد من التعاطف الدولي مع الفلسطينيين، وتضخيم الإدانات الأخلاقية والسياسية لإسرائيل.
يقع هذا التصور في صلب استراتيجية يحيى السنوار. سبقه إلى ذلك «حزب الله» اللبناني، عبر قول شهير للأمين العام السابق عباس الموسوي، الذي لطالما ردد شعار: «اقتلونا، فإن شعبنا سيعي أكثر فأكثر»!
هنا أيضاً يُعدُّ موت الفلسطينيين ومعاناتهم أداة دعائية جبارة، تُحسِن «حماس» توظيفها لجذب الدعم، وتزخيم التعبئة، وهتك صورة إسرائيل.
على الجانب الآخر، تتبع حكومة بنيامين نتنياهو، منذ 8 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، نهجاً بالغ القسوة في التعامل مع القطاع. لم تعد تنفع في هذا السياق كل السرديات التي تقول إن الفصائل تتلاعب بأعداد الضحايا وهوياتهم. ولا عادت تفيد المقارنات بين أداء الجيش الإسرائيلي في غزة وأداء غيره في مسارح حربية أخرى، أو التراشق بنسب الإصابات بين المدنيين والعسكريين للاستدلال على كفاءة أو دقة إسرائيل في الحرب الراهنة. ففي العملية الأخيرة لتحرير 4 رهائن، قتل الجيش الإسرائيلي أكثر من 200 فلسطيني، متجاوزاً كل القواعد التي تبرر وضع العملية في سياق الدفاع عن النفس، أي تحرير رهائن مدنيين.
فلو افترضنا أنه من شبه المستحيل التزام مبدأ التمييز الذي ينص عليه القانون الدولي، أي إلزام أطراف النزاع المسلح بالتمييز بين الأهداف العسكرية والمدنيين، بسبب الطبيعة الفوضوية والمتداخلة لقطاع غزة، فإن إسرائيل أهملت أيضاً مبدأ التناسب، أي أن تكون الأضرار الناتجة عن الهجوم واللاحقة بالمدنيين متناسبة مع الفائدة العسكرية المتوقعة.
العملية الأخيرة تندرج في السياق نفسه الذي يجعل من دماء الفلسطينيين الأبرياء عُملة سياسية رخيصة. فلم يكن الهدف تحرير الرهائن فقط؛ بل إرسال رسالة ردع أشمل، باستخدام التكلفة البشرية الباهظة للضغط على المجتمع الفلسطيني وزعزعته.
تبدو إسرائيل عازمة على سياسية «كي الوعي»، عبر إنزال أفظع أنواع الألم بعموم الفلسطينيين، بهدف تحطيم فكرة الكفاح المسلح سبيلاً لتحقيق تطلعاتهم الوطنية.
كما تأمل إسرائيل أن تسفك ما يكفي من دماء الفلسطينيين، بغية إعادة تأسيس الردع الذي انهار يوم هجوم السابع من أكتوبر الماضي، وهز أعماق الشخصية الإسرائيلية وثقتها بمشروع دولة إسرائيل. إنه شراء للثقة بدماء الفلسطينيين.
لم يشذ رعاة الفصائل عنها -أو عن إسرائيل- في تجاهل فداحة المأساة الإنسانية اللاحقة بأهل القطاع.
فعندما يعلن المرشد الإيراني علي خامنئي أن الهجمات على إسرائيل ضرورية، على الرغم مما استدرجته من أهوال على أهل غزة، ويروح يعدد الفوائد الاستراتيجية للمذبحة الجارية، فإنه يلقي الضوء على كيفية استهلاك دماء الفلسطينيين في لعبة النفوذ والسيطرة والصراع العقائدي.
فصورة نهر الدماء الذي سيجرف إسرائيل ليست مجازاً في العقل الإيراني الجهادي؛ بل ممارسة عملية على الأرض، تهدف إلى محاصرة إسرائيل بنتائج أفعالها، وتكثيف أزماتها الداخلية والإقليمية والدولية، تمهيداً لإسقاطها.
تقلِّص هذه المناورات مآسي الفلسطينيين إلى محض أضرار جانبية في سرديات أوسع وأكبر. تَحرم العائلات الممزقة والأطفال المسحوقين نفسياً والمجتمعات المدمرة من النظر إلى مصائرها الكئيبة، بوصفها التكلفة الحقيقية لهذا الصراع الذي لا نهاية له.
استرخاص دماء الفلسطينيين من قبل أعدائهم وممن يزعمون الدفاع عنهم، على حد سواء، والفشل في تقديم أولوية كرامتهم الإنسانية على المصالح الاستراتيجية، ولو عبر حلول سياسية لا تؤمِّن العدالة المطلقة، يعني أن الحل المستدام سيظل حلماً بعيد المنال.
لا شيء يجب أن يتقدم على إعلاء قيمة حياة الفرد الفلسطيني، والكف عن توظيف دماء الأبرياء في لعبة سياسية قاتلة.