بقلم -طارق الشناوي
أمس عشت مع إذاعة الأغانى يومًا مليئًا بالسحر والنشوة، تفيض منه النغمات المرصعة بالوهج، إنه يوم بليغ حمدى، وذلك احتفالًا بذكرى رحيله، لم يكن بليغ بالمناسبة يطيق استخدام تعبير الموت ومشتقاته، يرى الرحيل مجرد سفر، بعد أن أنهى المبدع رسالته وقدم للبشرية ما أراده له الله، وهكذا بليغ، قدم لنا 1500 لحن لا تزال تتنفس الحياة، ستظل تعيش وتتجدد فى الزمن القادم، بينما هو سافر قبل 29 عامًا.
إذا أردت أن تعرف الرأى فى فنان أنصحك بألا تسأل الفنان عن رأيه فى فنان، سوف تجد أن هذا الرأى إما مغلف بالغيرة التى تنبت لها مخالب قاتلة تحركها الكراهية العمياء التى لا ترى سوى اللون الأسود، أو على الجانب الآخر من الممكن أن تجد الحب الأعمى الذى يشاهد فقط اللون الأبيض، وفى الحالتين لن تصل إلى الحقيقة، عدد نادر جدًا من الفنانين يعبرون عن قناعاتهم بدون مواربة، ومن هؤلاء الراحلة وردة، فهى عادة تعلن عن آرائها بلا حسابات أو حساسيات، شاهدتها فى حلقة مسجلة على إحدى الفضائيات، سألها المذيع عن الفارق بين عبد الوهاب وبليغ حمدى، قالت عبد الوهاب أستاذ وعبقرى وترزى، أما بليغ فإنه عبقرى وبوهيمى وتلقائى!!.
ولتوضيح الفارق بين الترزى والتلقائى، أشارت إلى ملابسها، وقالت عبد الوهاب هو الترزى الشاطر الذى يستطيع أن يضع قطعة من هنا وقطعة من هناك بتفاصيل صغيرة يمزجها معًا يقدم فستانًا مبهرًا يسرق العين، بليغ حمدى يأتى إليه الإلهام بدون أن يبذل جهدًا عقليًا، ينعم الله عليه بأنغام من السماء يقدم فى لحظة واحدة الفستان كاملًا، ربما لا تعرف وردة أن عبد الوهاب كان يرى فى بليغ رؤية قريبة مما ذكرته، فكان يقول إن بليغ كثيرًا ما تأتى إليه جمل موسيقية عبقرية تطارده، إلا أنه كثيرًا ما يهدرها ولا يبذل أى جهد لتهذيبها، يقدمها للناس «بعبلها»!!.
تحمل كلمات عبد الوهاب كل ما تقوله وردة فى النصف الأول، إلا أنها فى الثانى تنفى عنه أشياء رائعة، لم تكن وردة بحاجة لكى تذكرها، لأن إبداع بليغ حمدى لا يزال يحتل المركز الأول وبالأرقام.
عبد الوهاب رحل عام 1991 وبليغ حمدى بعده بعامين، لو عدنا إلى أرقام جمعية المؤلفين والملحنين، ورصدنا الأداء العلنى الذى يعبر عن كثافة تداول الأغانى فى الأسواق على الكاسيت والسى دى وأيضًا مختلف الإذاعات والقنوات الفضائية، سوف تكتشف أن بليغ حمدى يحقق الرقم الأعلى فى الربع قرن الأخير، البعض يقول إن الإبداع ليس مجرد رقم فى شباك التذاكر أو فى منافذ البيع، أوافق على هذا الرأى، إلا أننا أيضًا فى نفس الوقت من الممكن أن نرى الرقم من زاوية أخرى أكثر صدقًا ودقة، وهى أن هذه الألحان عاشت واخترقت حاجز الزمن، لأن بها عمقًا إبداعيًا منحها حياة مع أكثر من جيل، والدليل أن أفضل عشرة ألحان لا يزال يرددها الناس من غناء أم كلثوم- أيضًا بالأرقام- تجد أن بليغ حمدى له من بينها 6 ألحان، وهى «سيرة الحب»، «بعيد عنك»، «الحب كله»، «ألف ليلة وليلة»، «فات الميعاد»، «أنساك»، وبعض هذه الألحان مر عليها أكثر من 60 عامًا، وهذا يعنى أن الأرقام تحمل أيضًا شهادة على تفرد الإبداع، لو قلنا إن عبد الوهاب كثير من الصنعة الموسيقية، قليل من الإلهام، بينما بليغ كثير من الإلهام، قليل من الصنعة، لا أتصور أننا نبتعد عن الحقيقة، عبد الوهاب عقل على أطرافه عاطفة، وبليغ عاطفة على أطرافها عقل!!.