بقلم - مشعل السديري
(هارون الرشيد) بويع له بالخلافة في الليلة التي توفي فيها أخوه، وولد في تلك الليلة المأمون، وكانت ليلة عظيمة لم ير مثلها في بني العباس؛ مات فيها خليفة، ووُلي خليفة، ووُلد خليفة.
ويقال إنه بينما كان (الرشيد) يطوف في قصر له إذ مر بجارية له (.....) وتسحب أذيالها من التيه، فراودها، فقالت يا أمير المؤمنين إنك هجرتني مدة ولم يكن عندي علم بموافاتك، فانتظرني الليلة حتى أتهيأ، فلما أصبح انتظرها فلم تجئ، فقام ودخل عليها وسألها إنجاز الوعد، فقالت: أما علمت أن (كلام الليل يمحوه النهار). فطلب من الشعراء مصعب والرقاشي وأبو نواس: ليقل كل واحد منكم شعراً يكون آخره «كلام الليل يمحوه النهار».
وأكثر ما أعجبه ما قاله (أبو نواس):
وخود أقبلت في القصر (.....)/ ولكن زين (.....) الوقار
وقد سقط الردا عن منكبيها/ من التجميش وانحل الإزار
وهز الريح أردافاً ثقالاً/ وغصناً فيه رمان صغار
هممت بها وكان الليل ستراً/ فقام لها على المعنى اعتذار
وقالت في غد فمضيت حتى/ أتى الوقت الذي فيه المزار
وقلت الوعد سيدتي فقالت/ كلام الليل يمحوه النهار
فقال له: ويلك أكنت مطلعاً علينا أو ثالثنا في القصر؟ فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكن نظرت إليك فعرفت ما في نفسك وعبرت عما في ضميرك. فأمر له بأربعة آلاف درهم ولصاحبيه بمثلها.
قال أعرابي للرشيد يوماً: يا هارون، فغضب وقال ما حملك ألا تناديني بكنيتي؟، فقال: الله كنّى أعداءه فقال: «تبت يدا أبي لهب»، وسمّى أحبابه وقال لنبي الله: (يا عيسى) - عندها هدأ الرشيد ونكّس رأسه.
أقام أحد الولاة الحدّ على (شاة)، فقالوا له: إنها بهيمة، فرد عليهم: الحدود لا تعطل. فانتهى خبره إلى الرشيد، فلما وقف بين يديه قال: من أنت؟ قال: مولى لبني كلاب، فضحك الرشيد وقال: كيف بصرك بالحكم؟ قال: الناس والبهائم عندي واحد في الحق ولو وجب الحق على بهيمة حتى لو كانت أمي أو أختي، فلن تأخذني في الله لومة لائم، فأمر الرشيد بألا يستعان به إطلاقاً.
قال السماك الزاهد للرشيد وقد دعاه إلى قدح ماء ليشربه، فقال له يا أمير المؤمنين لو منعت منك هذه الشربة بكم تشتريها؟ فقال الرشيد بملكي كله. فقال له السماك: فلو منعت خروجها منك و(لم تتبول) فبكم تشتريها؟ فقال هارون: بملكي كله. فقال: لا خير في ملك لا يساوي شربة ولا بولة - يتبع.