وقع عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة الوطنية، التي تتخذ من غرب ليبيا مقراً لها، في الشيء نفسه الذي كان الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك قد وقع فيه من دون قصد.
والقصة أن مواقع التواصل تتداول فيديو للدبيبة يقول فيه الآتي: «40 مليار دولار أين تذهب؟ الليبيون يأكلون ويشربون مجاناً، ويريدون زيادة في الرواتب وبنزيناً وكهرباء وماءً بالمجان...»، وقال أيضاً: «الموظف لا يعمل أكثر من ساعة يومياً».
قبل أن يجري تداول هذا الفيديو بثلاثين سنة تقريباً، كان حسني مبارك قد قال المعنى ذاته الذي يقوله الفيديو، ولكنّ كلامه لم يتسرب وقتها من خلال مواقع التواصل، لأنها لم تكن قد ظهرت بعد، وربما كانت في ذلك الوقت لا تزال في بداياتها، ولم تكن قد بلغت ما بلغته هذه الأيام من انتشار ولا من سطوة بين الناس.
كان مبارك قد عاد للتوّ من زيارة لإثيوبيا، وكان قد قطعها بسبب محاولة الاغتيال الشهيرة التي استهدفت حياته، وهو في طريقه إلى القمة الأفريقية المنعقدة في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وكانت وسائل الإعلام قد راحت تتهافت عليه، لتسمع منه عن قرب ماذا جرى، وكيف نجا من محاولة كانت أسباب نجاحها متوافرة كلها.
كان ذلك في 1995، وكانت الصحافية الكويتية هداية سلطان السالم، رئيسة تحرير مجلة «المجالس»، قد جاءت تطلب حديثاً صحافياً مع الرئيس المصري، وقد أجرت معه حواراً جرى نشره لاحقاً في المجلة، وكان في أغلبه يدور حول وقائع محاولة الاغتيال، وعن الأطراف الإقليمية التي يرى مبارك أن لها علاقة بما وقع.
وعلى هامش الحوار دار كلام آخر في مواضيع مختلفة عن موضوع محاولة الاغتيال، وفي أثناء الدردشة التي جرت على الهامش قال مبارك كلاماً يكاد يكون هو نفسه الذي قاله الدبيبة، ولكنه كان عن المصريين، لا عن الليبيين بالطبع.
ومما قيل بعدها أن فريق العمل في مكتب مبارك أفهم هداية السالم، أن ما قيل على هامش اللقاء ليس للنشر، وقالت هي من جانبها إنها تفهم ذلك وتتفهمه، ولكنها ما كادت تصل إلى الكويت حتى كانت قد نشرت الحوار وما جرى على هامشه معاً!
وقامت الدنيا ولم تقعد، ونشرت الصحافة في القاهرة تعليقات متفرقة على الحوار، وبالذات على النقطة التي يتحدث فيها الرئيس عن المصريين، وعن أنهم في الغالبية منهم يريدون كذا وكذا بالمجان... تماماً كما قال رئيس حكومة الوحدة الوطنية من مقره في العاصمة طرابلس، وتماماً كما يقول الفيديو المتداول على مواقع التواصل.
وكتب جمال بدوي، رئيس تحرير جريدة «الوفد»، مقالاً عن القضية كان هو الأهم، لأنه كان افتتاحية الجريدة في الصفحة الأولى، ولأنه عاتب فيه رئيس الدولة على أنه تكلم بهذه اللهجة عن المصريين، وكان عنوان المقال: «عتاب على الرئيس».
كنت قريباً من بدوي وقت رئاسته للتحرير، وأعرف أن هذا العنوان لم يكن هو العنوان الأصلي الذي اختاره الرجل لمقالته، وأنه كان قد كتبها تحت عنوان «أصابت امرأة وأخطأ الرئيس» ولكنَّ أحداً في الجريدة نصحه بتغيير العنوان، لأن ظهور المقالة به يمكن أن يسبِّب مشكلة، وبالفعل جرى تغيير العنوان إلى العنوان البديل الذي خرجت به الجريدة على القراء.
كان جمال بدوي يرحمه الله، قد استوحى العنوان الأصلي للمقالة من القصة المعروفة التي دارت ذات يوم بين امرأة من عامة المسلمين، وبين الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب، والتي انتهت بأن قال عمر: «أصابت امرأة وأخطأ عمر».
ولكن لأن زمن عمر كان قد فات وقت استشهاد رئيس تحرير «الوفد» بالواقعة، فإن المقالة لم تمر بخير رغم تغيير عنوانها، وتعرّض كاتبها لاعتداء بالضرب العنيف في عرض الشارع، وكان ذلك بعد صدور عدد الجريدة الذي ضم المقالة بساعات، وبدا من سياق ما حدث أن الاعتداء كان بسبب المقالة أساساً لا بسبب آخر، وأن تغيير عنوانها لم يشفع لكاتبها في شيء، وأن المقربين من مبارك لم يجعلوا المقالة تمر بسلام، وأنهم قد أوغروا صدره على رئيس تحرير «الوفد» فكان ما كان، مما كان حديث المحروسة كلها في تلك الأيام.
وكان الطريف في الموضوع أن مبارك اتصل بجمال بدوي تليفونياً في مساء يوم وقوع الاعتداء، وتبادل معه حديثاً ودّياً ضاحكاً، وسأله عن السبب الذي لم يجعله يتعامل بيديه مع الذين اعتدوا عليه بالضرب!
يدور الزمان دورته، ويقع الدبيبة في الفخ ذاته، وبغير قصد منه بالتأكيد، لأنه لو كان يقصد لقال ما قاله في لقاء عام، ولكن لأنه كلام لا يقال في لقاء من هذا النوع، ولأنه نوع من الفضفضة، فإن صاحبه لم يتصور وهو يفضفض به في جلسة خاصة، أنه سيصير مُذاعاً على الليبيين كلهم خلال لحظات. لم يتخيل رئيس حكومة الوحدة أنه وهو يتكلم بما قاله، سيكون أقرب إلى الفنان محمود عبد العزيز في فيلم «الكيت كات» عندما قام في الفيلم بدور «الشيخ حسني الضرير»، وعندما تكلم أخذ راحته في الكلام من دون أن ينتبه إلى أن الميكروفون القريب منه مفتوح على الناس!
يمكن النظر إلى ما قيل من جانب مبارك والدبيبة معاً على أنه زلة لسان غير مقصودة، ولكن منذ متى كانت زلّات اللسان في حياة الساسة تؤخذ على أنها زلّات لسان بالفعل؟ كانت زلّات لسان تمر في هدوء من قبل، وكان ذلك في زمن مضى لم يكن الإعلام الجديد يتربص فيه بالسياسي في كل الحالات والأوقات، وبغير أن يبالي كثيراً بما إذا كان ما ينقله قد قيل للنشر أو لغير النشر.
وليست وسائل التواصل الاجتماعي في حالة فيديو الدبيبة، إلا الميكروفون المفتوح إلى جوار «الشيخ حسني» في فيلم «الكيت كات» الشهير!