بقلم - سليمان جودة
لا تعنيني الأسماء في الوقائع المزعجة التي استيقظ عليها الإخوة الأردنيون قبل أيام، فالأسماء في النهاية سوف تقف أمام جهات التحقيق، وسوف تقول هذه الجهات إن فلاناً من بين المتهمين بريء، وإن فلاناً من بينهم مُدان، وإن هذا ما تقوله الأوراق أمامها.
لا تعنيني الأسماء، فلقد عشنا نعرف أن القاضي يحكم فيما يجده معروضاً عليه بما أمامه من أدلة وأوراق وليس بما يعرفه، حتى ولو كان ما يعرفه يدين المتهم الواقف بين يديه ويجرّده من مقتضيات البراءة.
إنما يعنيني المعنى في «وقائع ليلة المؤامرة» كما أصبح الإعلام يسميها، والمعنى فيها أن ما فوق الأرض من حولنا في المنطقة يقابله شيء آخر تحتها، وأن مواضع متناثرة على الخريطة أمام أعيننا، ليست بالهدوء الذي قد تبدو عليه في مرمى العين الناظرة.
ويعنيني أن الأردن نجا من رياح «ربيع» المنطقة قبل عشر سنوات، وأن نجاته كانت بخطوات موزونة من مؤسسة الحكم الملكية فيه، وأن ذلك لم يكن خبراً سعيداً للجماعات الجوالة في المنطقة، وفي المقدمة منها جماعة الإخوان المسلمين، التي لا تزال تقدم مصلحة الجماعة على فقه الأوطان.
لا أريد أن أستبق التحقيقات الجارية في وقائع ليلة المؤامرة، ولا أريد أن أبادر فأتّهم الإخوان أو غير الإخوان بالوقوف وراء ما جرى، فالتحقيقات هي التي سوف تقول وتتهم وتشير، وهي التي سوف تضع المسؤولية عمّا حدث في رقبة صاحبها في النهاية!
ولكن ما أريد أن أقوله إن جماعة الإخوان بالذات حصلت على الفرص السياسية في الأردن، بأضعاف أضعاف ما حصلت عليه في أي بلد عربي آخر، وقد تكرر ذلك معها أيام الملك حسين يرحمه الله، ثم تكرر أيضاً في سنوات حكم الملك عبد الله الثاني على امتداد المسافة الزمنية من أول هذا القرن إلى هذه الأيام. ولكنها في كل مرة كانت تتصرف على الأرض وهي محكومة بمنطق المغالبة لا المشاركة، وكانت تريد الأردن كله لا بعضه ثمرة ناضجة ومستقرة في حجرها، وكانت لا تتورع عن توظيف كل مناسبة تصادفها على طول الطريق، في اتجاه تحقيق هذا الهدف الذي لم تجرب أن تُخضعه ولو مرة واحدة للمراجعة.
ولأكثر من مرة تجسدت هذه اللعبة السياسية المراوغة من جانبها في فعل سياسي خادع على الأرض، ولكنها تجسدت أمامنا على نحو أوضح في زمن الربيع العربي، ثم فيما تلاه من أيام وشهور وسنوات. وقد كانت الجماعة لا تشارك في زمن الربيع حين تجد نفسها مدعوة للمشاركة في الحياه السياسية الأردنية، إلا لتغالب من أجل أن تغلب، ولم يكن في ذهنها أن هذا وطن يتسع لغيرها بمثل ما يتسع لها، ولا كانت تنتبه إلى أن منطق المغالبة لم يحدث أن أضاف لها شيئاً، وأنه في كل مرة كان يعود بها إلى مربعها الأول!
في زمن الربيع راحت الجماعة تستقوي في الأردن بما تشهده المنطقة من أحداث، كانت قد فاجأت منطقتنا كما لم تفاجئها أحداث مماثلة من قبل، ثم راحت جماعة البنا تتصور أن ما جرى في عواصم حول الأردن يمكن أن يعاد إنتاجه هناك، فلما مالت شمسها في أكثر من عاصمة حول عمان، أخذت في مكانها خطوات إلى الوراء وتصرفت وفق مبدأ التقية في التعامل مع الحكومة الأردنية.
ورغم مواقف المساندة للأردن في مواجهة وقائع ليلة المؤامرة، ورغم أن مؤسسة الحكم في عمان وجدت دعماً من أكثر من عاصمة في الإقليم وفي خارجه، فإننا لم نطالع بياناً واضحاً من الجماعة يدعم البلد الذي لا يحتمل مغامرة من نوع مغامرة تلك الليلة، ولم نسمع أن الإخوان سارعوا إلى بيان يساند ولو على سبيل درء الشبهات بعيداً عن ببت الجماعة.
ولست أقول إن الجماعة وحدها هي التي لا تعبأ بأمن الأردن ولا تراعيه، ففي المنطقة من حول الأردن أطراف في الإقليم لا يهمها أمنه ولا استقراره، حتى ولو صدر عنها ما يقول إنها تراعي عوامل أمنه وتحرص على استقرار أراضيه.
من ذلك على سبيل المثال أن إسرائيل سارعت بعد وقائع الليلة المنشورة إلى إبداء تعاطفها مع الأردن في مواجهة كل ما يمس سلامته، لأن الأراضي الأردنية حسبما جاء في الكلام الصادر عن تل أبيب تمثل عمقاً استراتيجياً للدولة العبرية في مكانها!
ولا تملك أنت إلا أن تصدق ما قيل في هذا الشأن على لسان حكومة بنيامين نتنياهو، فالخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب كان يدعو الآخرين إلى أن يُظهروا أحسن ما عندهم، أما السرائر وراء ما يظهر أمامنا فقد كان تقديره أن الله أعلم بها.
ولكن ما العمل إذا كانت إسرائيل تقول تجاه الأردن عكس ما تفعله، وما العمل إذا كان سلوكها السياسي فيما قبل أحداث ليلة المؤامرة مباشرة لا يؤيد حديث التعاطف ولا يسنده، بل يؤدي إلى النقيض من حديث التعاطف بكل معانيه؟!
ما العمل إذا كانت حكومة نتنياهو كما يتردد لم تقم بما هو مطلوب إزاء زيارة للأمير الحسين بن عبد الله، ولي العهد، إلى الحرم القدسي، وما العمل إذا كان ذلك قد أدى إلى إلغائها في آخر اللحظات؟!
وما العمل إذا كانت الحكومة الأردنية قد طلبت من الحكومة الإسرائيلية بعدها تزويدها بكميات إضافية من المياه، فرفضت حكومة نتنياهو وأعلنت ذلك ولم تشأ أن تداريه، وما العمل إذا كان الرفض من جانبها يتعارض مع نصوص الاتفاقية الموقّعة بين البلدين في 1994؟!
كل الذين تابعوا خبر عدم إتمام زيارة ولي العهد الأردني للحرم القدسي، ثم نبأ رفض التزويد بكميات إضافية من المياه، لم يصدقوا حديث التعاطف ولم يثقوا به، ليس لأنهم يقدمون الشك فيه على اليقين، ولكن لأن بناء الثقة بين الدول له دلائل وعليه علامات.
والكلام عن زيارة ولي العهد الملغاة، وعن طلب التزويد بالمياه المرفوض، هو كلام عن شيء وقع بالفعل لا عن شيء يقال هنا أو هناك!
ولأن تحقيقات وقائع ليلة المؤامرة لا تزال جارية، ولأن معلوماتها لا تزال لدى المحققين، فكل ما أُذيع لا يزال في عمومه أقرب إلى جبل الثلج الذي يظهر لنا رأسه طافياً على السطح، بينما جسده كله يبقى غاطساً في الأعماق، وسوف يأتي وقت يتبدى فيه الجسد كله أو بعضه في أقل القليل، وعندها سوف نعرف أين موقع كل طرف على خريطة الأحداث، وأين تقف الأطراف ذات المصلحة مما جرى وانكشف؟!
ومن تدابير القدر أن الأردن سيحتفل في الحادي عشر من هذا الشهر بمرور مائة عام على قيام إمارة شرق الأردن، التي كانت هي نواة المملكة الهاشمية لاحقاً، وحين يقام هذا الاحتفال فإنه سيكون احتفالين؛ أحدهما بالذكرى التأسيسية التي تحل في موعدها، والآخر بقدرة البلد على تجاوز تحديات على طول قرن من الزمان، ولذلك، فالأحداث الأخيرة لم تكن الأولى في قائمة تطول من التحديات!