بقلم - طارق ترشيشي
جملة عوامل كانت ولا تزال تتحكّم بالاستحقاق الحكومي وتَعوق تَوصّل الافرقاء المعنيين الى اتفاق على الحكومة العتيدة، وهذه العوامل منها الداخلي ومنها الخارجي، وأبرزها أزمة الثقة المستحكمة داخلياً وانعدامها المتبادَل بين المعنيين بتأليف الحكومة، وكذلك انعدام ثقة اللبنانيين بالقوى السياسية وتحميلهم إيّاها مسؤولية الفساد والانهيار الاقتصادي والمالي والمعيشي الذي سقطت فيه البلاد، وأيضاً انعدام الثقة العربية والدولية بلبنان وسلطاته والافرقاء السياسيين المشاركين في السلطة وغير المشاركين.
إنّ إنعدام الثقة الداخلية ناجِم من قراءات سياسية متعددة للواقع الذي نشأ بعد حراك 17 تشرين الاول 2019، ولِتمَوضع القوى السياسية الجديد في ضوء الازمة السائدة بشقوقها المختلفة، ومن هذه القراءات ما عَبّر عنه قراءة أحد السياسيين القريبين من بعض المرجعيات المعنية بورشة التأليف الحكومي والمطّلعين على بعض خلفيات الافكار المطروحة حول ما ينبغي ان تكون عليه التشكيلة الوزارية الجديدة.
وهذا السياسي يقول انّ هناك شعوراً لدى بعض التيارات والقوى المسيحية بانعدام الاهتمام الدولي عموماً والغربي خصوصاً بالمسيحيين في لبنان إضافة الى مسيحيي الشرق، الى درجة انّ الاعلام الغربي بات لا يأتي على ذِكر هؤلاء في ضوء ما هو حاصل من انفتاح غربي ودولي عموماً على العالم الاسلامي، وتحديداً على دول الخليج وغيرها من الدول العربية، وذلك من بوّابة التطبيع الذي يحصل بينها وبين اسرائيل، ويأتي كأنه من ضمن حلقات «صفقة القرن» التي طرحتها ادارة الرئيس الاميركي دونالد ترامب حلّاَ للقضية الفلسطينية. وكذلك، يأتي الاهتمام الغربي بالعالم الاسلامي من البوابة الايرانية من خلال المحاولات الاميركية والغربية الهادفة لتقويض أو انهاء النفوذ الايراني عبر استعمال القوة في المنطقة، في حال لم تنجح المفاوضات مع طهران للوصول الى اتفاق جديد حول برنامجها النووي، يرغَب الاميركيون أن تكون الصواريخ البالستية الايرانية مِن ضمنه، والنفوذ الايراني في المنطقة.
ويضيف هذا السياسي انّ المسيحيين في لبنان إزاء هذه الحالة يشعرون بِتَخلّ غربي عنهم، ما يولّد قلقاً شديداً لديهم على مستقبلهم. ولذلك، فإنهم بدأوا يتعاطون بحذر مع كل ما يطرح عليهم، ويعملون على الدفع في اتجاه توسيع رقعة نفوذهم في السلطة والتحَكّم بمفاصل أساسية فيها في مواجهة ما يرونه او يعتقدون من وجود «توافق سني ـ شيعي» في مواجهتهم، وتعبّر عنه العلاقة السائدة بين الثنائي الشيعي والرئيس المكلف تأليف الحكومة سعد الحريري، ويخشون من أن تعزّز التطورات المرتقبة في المنطقة من قوة هذه العلاقة ونفوذها داخلياً على حساب المسيحيين ووجودهم في السلطة.
ولذلك، يرى هذا السياسي أنّ اندفاعة رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل للحصول على «الثلث المعطّل» الصافي مسيحيّاً في الحكومة العتيدة لا يَستبطِن مصالحه السياسية والخاصة بمقدار ما يرتبط بالمخاوف المسيحية من المستقبل، في الوقت الذي لم يلاحظ انّ «القوات اللبنانية» المختلفة، بل المشتبكة سياسياً مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ومع باسيل وتيّاره، لم يصدر عنها أي موقف يُعارض طروحات باسيل الحكومية التي يقدمها تحت شعار «الحفاظ على حقوق المسيحيين والدفاع عنها».
وقيل في هذا الاطار انّ الحريري ليس الوحيد الذي يُعارض ما يطلبه باسيل من ثلث معطّل، ولو من خلال الطروحات التي يعبّر عنها رئيس الجمهورية بطريقة غير مباشرة خلال «لقاءات التأليف» المتكررة في القصر الجمهوري، بل انّ الثنائي الشيعي أيضاً يعارض حصول «التيار الوطني الحر» على «الثلث المعطّل» بمفرده، مثلما يعارض حصول أي فريق آخر بعَينه على هذا الثلث، وإنما يرى انه اذا كان هناك من أثلاث معطّلة في الحكومة الجديدة فيمكن تركيبها من خلال التحالفات السياسية القائمة، بحيث يكون الثلث مُداراً بمجموعة أفرقاء وليس بفريق واحد يمكنه ان يتحكّم وحده بمصير الحكومة او يسقطها ساعة يشاء، خصوصاً في هذه المرحلة الخطيرة التي تمر بها البلاد التي تتطلب تعاوناً فعلياً بين الجميع للعبور بها الى آفاق الانفراج والحلول.
وقيل في هذه السياق ايضاً انّ الثنائي الشيعي أبلغَ بطريقةٍ ما الى باسيل انّ حصول «التيار الوطني الحر»، من خلال رئيس الجمهورية، على حصة من 5 وزراء في الحكومة يكفي لتكوين ثلث معطّل بعد انضمام وزيرين على الأقل من الحصة الشيعية، البالغة 4 وزراء، إليها. وهذا الامر يمكن ان ينطبق ايضاً على الآخرين: الحريري مع حلفائه الذين يمكن أن يركّبوا ثلثاً معطّلاً مماثلاً.
لكنّ مصادر تواكب الاتصالات الجارية في شأن التأليف الحكومي تؤكد انّ هذه الاثلاث المعطّلة، إذا وجدت، فإنها لن تكون غير قابلة للاستخدام خصوصاً انّ الجميع مقتنعون بأنّ الاولوية الآن ينبغي ان تكون لبَدء ورشة إخراج البلاد من الانهيار بتعاون الجميع، وانّ المرحلة ليست مرحلة تَنازُع على حصص وأثلاث معطّلة في الحكومة لأنّ الهيكل مهدّد بالسقوط على رؤوس الجميع، أللهمّ إلّا إذا كان البعض يُبَطِّن، مِن خلال سَعيه الى الاستحواذ على الثلث المعطّل، الوصول الى غايات واهداف اخرى تتصل باستحقاقات 2022 الدستورية النيابية والرئاسية.
ولذلك، يعتقد هذا السياسي القريب من بعض مرجعيات التأليف انّ الحكومة لن تولد طالما انّ أزمة الثقة بين المعنيين مستمرة، وطالما انّ الثقة الخارجية بلبنان مُنعدمة. ويذكّر هذا السياسي هنا بما كان قد قاله الرئيس الفرنسي لرؤساء الكتل النيابية والسياسية التي اجتمع بها في قصر الصنوبر مرتين خلال زيارتيه الشهيرتين قبل أشهر للبنان، حيث دعاهم الى ترك خلافاتهم ومشاريعهم السياسية جانباً في هذه المرحلة والذهاب الى تأليف حكومة اختصاصيين تدعمها القوى السياسية تعمل على تحقيق الاصلاحات المنشودة، ما يؤسّس لإعادة بناء الثقة في ما بينهم واستعادة ثقة اللبنانيين بهم، وكذلك استعادة الثقة العربية والدولية بلبنان بما يفتح الابواب لوَضعه لبنان على سكّة الحلول لأزماته الاقتصادية والمالية عبر الدعم العربي والدولي، وعندها فلتذهب القوى السياسية الى حوار في ما بينها لمعالجة خلافاتها.