بقلم - حمد الكعبي
أكتب من القاهرة التي تستأنف دورها الثقافي في بلورة خطاب عقلاني، يحاصر تبعات الشطط والغلو في الواقع العربي الراهن، في أعقاب اندحار مظاهر التطرف، وانكشاف عتمته ومخططاته، أمام إصرار «مصر المحروسة» على مكانتها في الشرق، منارةً للمعرفة والتنوير والاعتدال.
شاركت في المؤتمر الـ29 للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الذي ناقش مفاصل أساسية في الخطاب الديني المعاصر، وملامحه والتيارات المؤثرة فيه، وعدت إلى التجربة الإماراتية في بناء الشخصية الوطنية، وكيف يمكن للخطاب الديني المستنير أن يسهم في تقدم الدول، ويحافظ على هويتها، وإرثها الحضاري.
يؤكد النموذج الإماراتي في هذا الصدد، أن الهوية الثقافية لا تكتمل، ولا تبرز خصوصيتها الحضارية، ولا تغدو قادرة على الأخذ والعطاء، إلا إذا تجسدت مرجعيتها في كيان شخصي تتطابق فيه أركان: الوطن والأمة والدولة، لكي يتمثل الفرد قيم الولاء والانتماء للوطن باعتباره الجغرافيا والتاريخ، والأمة باعتبارها النسب الروحي والانتماء الثقافي، والدولة باعتبارها التجسيد القانوني المؤسسي لكل ذلك.
على أن الجماعات المتطرفة التي تطرح نفسها خصماً للمجتمع وللدولة الوطنية، تسعى للتأثير في تشكيل توجهات الأفراد ومن ورائهم الرأي العام، بما يلحق الضرر بالشخصية الوطنية، وكذلك، فهي مبرمجة ذهنياً وسلوكياً على تهميش وتهشيم الثقافة الوطنية، وقيم الولاء والانتماء للأوطان، تحت ذرائع تسويق ولاء وانتماء بديل، حيناً إلى الجماعة الإرهابية نفسها بكل تشوهاتها وأكاذيبها، وأحياناً أخرى بمسوغ الولاء والانتماء للأمة، جهلاً وتزييفاً.
كذلك، فإن تيار العولمة يمثل أيضاً تحدياً ثقافياً آخر، ينازع أنماط التربية والتنشئة الوطنية على تشكيل وعي وهويات الأفراد، ومن هنا، فإن دور التعليم والإعلام في بناء الإرادة الذاتية والشخصية الوطنية ضرورة ترقى إلى الواجب، فنحن بصفتنا عرباً، نواجه اليوم هذا التحدي كلما فكرنا في ترسيخ الهوية والشخصية الوطنية، وصولاً إلى نقلة نوعية في مستويات الوعي الوطني العام، وتعزيز قيم الولاء والانتماء لدى المواطنين، وثقتهم في وطنهم، بما هو فكرة ومشروع اجتماعي وسياسي يجدون أنفسهم خلاله.
ثم إن للإنسان العربي هويته وشخصيته الوطنية، وانتماءه لدولته الوطنية، وهذا ما يجب التمسك به، والاشتغال على تحفيزه وتعزيزه وترسيخه، دون أن يعني ذلك بالضرورة أن هذا الإنسان ليس مواطناً في العالم، بل إن هويته الوطنية هي أيضاً جزء من الهوية الكونية الإنسانية الجامعة.
ويبقى أن الطريق لدفع ومنع التدخل الخارجي للتأثير في الشخصية والهوية الوطنية للإنسان العربي، يمر عبر تعزيز جاذبية وتنافسية الثقافة الوطنية، وترسيخ قيم الولاء والانتماء لدى الفرد من الداخل، والحفاظ على الخصوصيات الثقافية، دون انغلاق أو تخندق، وأيضاً دون انسلاخ عن الذات، ما يعنيه ذلك من انكشاف ثقافي، وخسارات كثيرة.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن صحيفة الأتحاد