سيفتقد لبنان، طويلا، جان عبيد الذي غيبه الموت عن 82 عاما. سيفتقده لسبب واحد على الأقل. لم يبق في البلد سوى عدد قليل من الشخصيات المارونية من طينة هذا السياسي اللبناني. شخصيات مثقّفة تتمتع بالنبل والمعرفة واحترام الناس وتعرف في الوقت ذاته لبنان والعالم العربي والعالم.
الاهمّ من ذلك كلّه، انّ شخصيات تمتلك صفات من نوع تلك التي يمتلكها جان عبيد، أي الاخلاق، صارت اقرب الى العملة النادرة. كانت الاخلاق في طليعة الصفات التي تحلّى بها جان عبيد. جعلت منه الدماثة المغروسة فيه شخصا صادقا وكريما في الوقت ذاته ومتحدّثا لبقا المعيّا يعرف الديانتين المسيحية والإسلامية في العمق ويعرف من عيون الشعر العربي، خصوصا من شعر المتنبّي، الكثير. كان مسيحيا مشرقيا عربيّا وكان يعرف ان يكون صديقا. مع جان عبيد كان للصداقة معنى آخر يميّزه النبل جمع فيه بين القدرة على الاحتفاظ بالقيم الريفية التي تربّى عليها والتطور مع ثقافة المدينة، بما في ذلك الاناقة في الملبس، والتكيف معها الى ابعد حدود.
تلك القدرة على الجمع بين افضل ما في القرية وافضل ما في المدينة أبقت جان عبيد، الرجل الانيق، متمسّكا بالأرض. كانت هديته لأصدقائه بعض زيت الزيتون الآتي من انتاج ارضه حين يحل موسم هذا الزيت.
تكمن اهمّية جان عبيد الذي غيبه وباء كورونا (كوفيد - 19) في تلك القدرة على الجمع بين التناقضات. هو ابن قرية صغيرة، قرب زغرتا في شمال لبنان، لا علاقة لها بالإقطاع السياسي. على الرغم من ذلك، فرض نفسه في الساحة السياسية اللبنانية وتحوّل منذ ما يزيد على نصف قرن الى احدى الشخصيات التي تمتلك مقعدا في الحياة السياسية اللبنانية، حتّى قبل اندلاع الحرب الاهليّة وحروب الآخرين على ارض لبنان في العام 1975. منذ ما بعد عهد الرئيس امين الجميّل في العام 1988، لم يغب اسم جان عبيد عن لائحة المرشّحين لموقع رئيس الجمهورية. لم تخدمه الظروف في ايّ وقت. هذا يعود الى استقلاليته، على الرغم من الكلام الكثير عن قربه من النظام السوري ومن الرئيس حافظ الأسد في مرحلة ما. انقذ حافظ الأسد جان عبيد عندما خطفته مجموعة تابعة لـ"حزب الله" في بيروت في العام 1987 واستقبله لاحقا في دمشق لتأكيد مدى احترامه للعلاقة بالرجل وبعقله وحرصه عليها.
كان للجلسة مع جان عبيد نكهة مختلفة بسبب غناها، خصوصا في ضوء ما يمتلك من اخبار وذكريات وقدرة على الربط بين الماضي والحاضر بطريقة ذكيّة مشبعة بروح النكتة الساخرة. كان يفعل ذلك في ضوء الخبرة الطويلة التي اكتسبها في معرفة المنطقة والشخصيات المهمّة فيها، إضافة بالطبع الى معرفته بلبنان وبشخصيات من اليمين واليسار والوسط، بما في ذلك كمال جنبلاط. كان يعرف مصر وسوريا والعراق والفلسطينيين. عرف صدّام حسين وحافظ الأسد وياسر عرفات وميشال عفلق وآخرين. عندما كان يتكلّم في موضوع ما كان يعرف ما يقوله. عرف حزب البعث عن قرب، لكنّه تميّز عن معظم البعثيين، من بعثيين عراقيين وسوريين، بروح النبل والمحافظة على شخصيّة خاصة به ابعد ما تكون عن السطحية والانتهازية.
ليست السيرة الذاتية لجان عبيد سوى اختزال آخر لمأساة لبنان، وهي مأساة يتحمّل المسيحيون الموارنة جانبا كبيرا من المسؤولية فيها، خصوصا عندما قبلوا الدخول في لعبة الميليشيات المسلّحة في سبعينات القرن الماضي. وهذه لعبة شجّع عليها رئيس الجمهورية الراحل سليمان فرنجيّة، الذي انتخب في العام 1970، والذي كان يفترض به ان يساهم باكرا في قطع الطريق عليها بدل تشجيعها.
استعان رئيسان هما الياس سركيس وامين الجميّل بجان عبيد. ارادا مدّ الجسور مع الآخرين. لم يكن افضل من ذلك الجسر الذي اسمه جان عبيد. ادّى المطلوب منه. وعندما اصبح وزيرا للخارجية في العام 2003، عرف كيف يكون ممثلا للبنان، كلّ لبنان، على الرغم من كلّ القيود التي كانت تفرضها الوصاية السورية وشخصية اميل لحّود رئيس الجمهورية وقتذاك. بنى جان عبيد في تلك المرحلة علاقة في العمق مع الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي الذي كان شديد الحرص على لبنان بمسيحييه ومسلميه. وفي مرحلة لاحقة، تحوّل جان عبيد الى احد الموارنة الذين تؤيّد المملكة وصولهم الى موقع رئيس الجمهورية، انطلاقا من مبدأ الاعتدال.
يغيب عن لبنان شخص ذكي ولمّاح كان يمكن لو وصل الى موقع رئيس الجمهورية تفادي الكثير من المآسي. شخص يستطيع جعل موقع رئيس الجمهورية حكما بين اللبنانيين بعيدا عن الجهل والحقد اللذين يميّزان العهد الحالي الذي على رأسه ميشال عون.
كان جان عبيد يعرف في الناس. كان يعرف من يصلح ومن لا يصلح. كان يعرف قبل كلّ شيء ان رئيس الجمهورية يجب ان يكون شخصا مثقّفا ينادي بالانفتاح، أي انّ رئيس الجمهورية يجب ان يكون شخصا قادرا على التعاطي مع جميع اللبنانيين من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق والفئات الاجتماعية.
في كلّ مرّة وصل فيها الى موقع وزاري، كان جان عبيد، الذي كان في أحيان كثيرة قريبا من رفيق الحريري، يبني. سارع عندما كان وزيرا للخارجية الى الافراج سريعا عن التشكيلات الديبلوماسية بعدما بقيت في الادراج بضع سنوات.
كان جان عبيد سيشرّف رئاسة الجمهورية. لم يكن ليحطّ من شأنها كما الحال الآن. يؤكد ذلك انّه عندما كان وزيرا للخارجية اللبنانية، اغتنم فرصة وجوده في هذا الموقع ليكون ناطقا باسم لبنان وليس باسم هذا الوصيّ على العهد او ذاك كما حصل لاحقا... عندما تحوّل لبنان الى صوت ايران في المجلس الوزاري لجامعة الدول العربيّة.
مع غياب جان عبيد، يترحّم المرء على رئاسة الجمهورية في لبنان. لكنّه قد يأتي يوم قريب يترحّم فيه على لبنان الذي في طريقه الى فراغ سياسي في ظلّ انهيار لكل المؤسسات على كل صعيد. فمن السهل في هذه الظروف استعادة الماضي واستعادة كيف ان اللبنانيين فوتوا على نفسهم، على سبيل المثال، انتخاب نسيب لحّود رئيسا للجمهورية. ما سيكون صعبا على المواطن اللبناني في مرحلة يبدو بلده مقبلا عليها تقبّل الواقع الجديد المتمثّل في ضياع كلّ مؤسسات الدولة، بما في ذلك رئاسة الجمهورية!