كان خطاب رئيس الجمهورية ميشال عون ثم المقابلة التلفزيونية مع الزميل ريكاردو كرم عشية الذكرى المئوية لاعلان "لبنان الكبير" صورة حقيقية وواقعية عمّا آل اليه لبنان. كان خطاب رئيس الجمهورية اكثر من كاف لكشف الفراغ الكامل في السلطة من جهة والفراق الكامل بينها وبين الواقع الأليم الذي يعيشه اللبنانيون من جهة أخرى.
كيف يمكن لرئيس الجمهورية اللبنانية القاء خطاب طويل، الى حدّ ما، في ذكرى مئوية "لبنان الكبير" من دون الحديث الصريح عن المشكلة التي يعاني منها لبنان واسمها سلاح "حزب الله"؟ هذا هو السؤال الكبير الذي لا مفرّ من طرحه عندما يتحدّث رئيس الجمهورية في لبنان عن "دولة مدنيّة" ثمّة حاجة الى قيامها، بديلا من الدولة القائمة حاليا والتي في أساسها اتفاق الطائف، بحسناته وسيئاته والذي يقرّ بالمناصفة بين المسيحيين والمسلمين. يثبت الطائف المناصفة بغض النظر عن التغيير الديموغرافي الذي حصل في البلد.
لا توجد خدمة يستطيع ميشال عون تقديمها الى لبنان سوى خدمة الاستقالة من موقع رئيس الجمهورية قبل انتهاء ولايته في آخر تشرين الاوّل – أكتوبر 2022. يفترض به ان يفعل ذلك احتراما للبنان واللبنانيين ولعقولهم، خصوصا بعد كارثة الرابع من آب – أغسطس الماضي التي يتحمّل مسؤوليتها كاملة. اقلّ ما يستطيع عمله رئيس الجمهورية، أي رئيس للجمهورية، بعد كارثة من هذا النوع هو الاستقالة بعدما دمر تفجير ميناء بيروت نصف العاصمة اللبنانية وشرّد ثلاثمئة الف مواطن.
من يراجع تاريخ ميشال عون يجد، للأسف الشديد، أنّ لا مكان لاعتذار من اللبنانيين على ما حلّ بهم. تلقّى رئيس الجمهورية في الواحد والعشرين من تموز- يوليو 2020 تقريرا رسميا يحذّر من الوضع في ميناء بيروت ومن وجود مواد خطيرة في عنابره. لم يفعل ميشال عون شيئا. تذرّع بعد ذلك، في تبرير عجزه، بانّه لم يكن قادرا على تجاوز الهيكلية الإدارية ونزع فتيل الانفجار. نسي ميشال عون انّه رئيس مجلس الدفاع الأعلى وانّه القائد الأعلى للقوات المسلّحة وانّه كان في استطاعته النزول بنفسه الى ميناء بيروت لمعرفة طبيعة المواد الخطرة في عنابره.
يتحمّل رئيس الجمهورية المسؤولية الكاملة عن كلّ ما حدث في بيروت بعد تفجير الميناء. حصلت كارثة ليس بعدها كارثة الّا اذا عدنا الى هيروشيما وناغازاكي في الحرب العالمية الثانية. تعرّضت المدينتان اليابانيتان لهجومين اميركيين بالسلاح النووي. استسلمت اليابان بعد ذلك. عرفت تماما انّ ليس في استطاعتها الانتصار على اميركا وانّ عليها دفع ثمن بيرل هاربور.
لا حاجة الى العودة بعيدا الى الخلف من اجل تأكيد كم تراجع لبنان ولماذا يصلح طرح أسئلة في شأن مستقبله بعد مئة سنة على اعلان "لبنان الكبير". يكفي ما ورد في خطاب ميشال عون وفي الحديث التلفزيوني الذي تفضّل به للتأكّد من ان لبنان في حال يرثى لها. بدل وجود رئيس للجمهورية يتحدّث عن المستقبل وما هي تطلعاته اليه، نجد رئيسا للجمهورية يبرر عدم وجود الكهرباء في البلد على الرغم من انّ حزبه يتولّى وزارة الطاقة منذ ما يزيد على عشر سنوات. يقول ميشال عون انّ هناك من رفض توفير التمويل لمشاريع الكهرباء. قد يكون ذلك صحيحا. لكن صحيح الصحيح انّ صهره جبران باسيل رفض تمويل صندوق التنمية الكويتي لمشاريع الكهرباء في لبنان بقيود ميسّرة. ما رفضه جبران باسيل عمليا هو الشفافية لا اكثر ولا اقلّ. ما رفضه أيضا هو عرض شركة "سيمنز" الألمانية التي كانت مستعدة لتأمين الكهرباء للبنان، مثلما امّنتها لمصر. هل لبنان احسن من مصر كي يرفض التعاطي مع "سيمنز"؟
جاءت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل الى بيروت مع عدد كبير من رؤساء الشركات الألمانية من اجل مساعدة لبنان. يمكن القول بالطبع ان الشركات الألمانية كانت تبحث أيضا عن أسواق جديدة ومصالح خاصة بها. لكنّ ما لا يمكن المرور عليه مرور الكرام لماذا إصرار جبران باسيل على منع حصول اللبنانيين على الكهرباء في السنوات العشر الأخيرة؟ هل تعذيب اللبنانيين هواية، ام المطلوب زيادة الدين العام خمسين مليار دولار بسبب الكهرباء؟
بعد قرن على قيام "لبنان الكبير"، هناك من لا يزال يعتقد انّ في استطاعته الضحك على اللبنانيين. هناك رئيس للجمهورية عاجز عن استيعاب معنى ان يكون اسيرا لدى "حزب الله" الذي اوصله الى قصر بعبدا. ان يكون رئيس الجمهورية اللبنانية رهينة لدى "حزب الله" يشكّل دليلا على ان البلد انتهى. ما يؤكد ذلك الإصرار على تغيير طبيعة النظام بما يتلاءم مع رغبات "حزب الله". هل يمكن القول بعد مئة عام على تأسيس الكيان اللبناني الحالي انّ "حزب الله"، الذي ليس سوى لواء في "الحرس الثوري" الإيراني خرج منتصرا على لبنان؟ نعم، يمكن قول ذلك، خصوصا اذا سارت الأمور في اتجاه تعديل اتفاق الطائف في ظلّ تفادي أي طرح للمشكلة الأساسية التي يعاني مها لبنان، أي سلاح "حزب الله"، وهو سلاح ميليشوي ومذهبي. كيف يمكن التوصّل الى اتفاق في شأن مستقبل لبنان في ظلّ سلاح "حزب الله" الذي أوصل ميشال عون الى موقع رئيس الجمهورية؟
تخلّى رئيس الجمهورية اللبنانية عن واجباته تجاه لبنان واللبنانيين. تخلّى عن حماية لبنان واللبنانيين. الانهيار الاقتصادي بالنسبة اليه، حدث عابر ليس الّا. لا استيعاب لمعنى احتجاز المصارف أموال اللبنانيين والعرب والأجانب. كم من سنوات سيحتاج لبنان كي يعود مصرف العرب وكي يستعيد ثقة العرب واللبنانيين بمصارفه ونظامه المصرفي؟
مخيف ان ليس في قمة الهرم اللبناني من يستوعب معنى الكارثة ومعنى ان الخيار الوحيد المتاح هو خيار "الحياد" الذي ينادي به البطريرك الماروني بشارة الراعي. أعاد البطريرك التذكير بأهمّية "الحياد" كي لا يعود لبنان مجرّد "ساحة" لإيران. لا وجود لرد من ميشال عون على الطرح المنطقي للبطريرك. لا يستطيع ذلك لسبب في غاية البساطة ان لبنان يحتفل بمرور مئة عام على قيامه بوجود رئيس للجمهورية مدين بوصوله الى قصر بعبدا لإيران، ممثلة بـ"حزب الله" وليس لاي طرف آخر.
متى عرف ذلك، لا يعود مجال لاي سؤال من أي نوع عن الكارثة التي حلّت بلبنان... كارثة الفراغ الكامل على اعلى المستويات.