بقلم - بكر عويضة
كُثرٌ هُم الدواسر الكرام، داخل المملكة العربية السعودية، وخارجها. سعد الحقباني الدوسري، جَميلُ الخُلق، الراحل منذ أيام، واحدٌ منهم. طيّبُ المعشر بلا ادعاء. كنتَ تراه هادئ المجلس، فلا يزاحم الغير، ولا يتعمّد إقحام الذات. مُهذب الحديث بلا صخب، كأنما إذا تكلم همس. أنيق المَلبس بلا تكلف. قل لي، إذنْ، كيف تتغلب على جبل حزن يجثم عليك فجأة، إذ تعلم عن رحيل الدوسري الجميل، منذ أيام، بهدوء، بلا ضوضاء ألمٍ، أو ضجيج شكوى، وأنّى لك أن تقاوم إحساس الذنب بأنك لم تودع الصديق الرائع، حق الوداع، حتى لو تتحجج بإغلاق تسبب به هذا الكرب المُسمى وباء «كورونا». كلا، ليس من عذر، فأناس مثل سعد الحقباني الدوسري قلائل في زمان تغوَّل فيه كل شيء، ضد كل منطق، حتى تكاد غيلان تزعم الانتماء لبني الإنسان تلتهم ما بقي من أحياء الغيلان في الغابات، كما اقتلعت بفؤوس الجشع باسق الأشجار من قبل، فتصحرّ الكوكب، أو يكاد.
جمعتني أقدار لندن مع سعد الحقباني الدوسري منذ بدايات مشوار التغريبة البريطانية. كنتُ في أول مرحلة العمل ضمن أسرة تحرير جريدة «العرب» صيف 1978، وكان جسم قبيلة الصحافيين والصحافيات العرب اللندنية، يتحسس الطريق نحو التشكل عبر لقاءات تعارف تتم بعد دفع صفحات الصحف إلى المطابع. ورغم أن مناقشات معظم مجالس تلك القبيلة، كانت تطوف حول قِبلة اللقاء على الحد الأدنى من التفاهم بشأن هموم العرب، ثم، تأكيداً لذلك، وجوب تأسيس رابطة، أو نادٍ للصحافة العربية، فإن القبيلة، التزاماً بالعرف العربي المعهود، سوف تتشظى، خلال بضع سنين، قبائل متنافرة ليست تعرف حدوداً حتى لأصول الخلاف، وآداب الحوار، إلا مَنْ رحم الله بينهم، ممن التزموا، بصدق، مبدأ حُسن الخُلق في التعامل، وتركوا الشحناء جانباً، بصرف النظر عن الاتفاق، أو الاختلاف، في المواقف.
سعد الحقباني الدوسري، كان واحداً من هؤلاء القلائل، وضمن تلك الأجواء حصل التعارف بيننا، وكنتُ محظوظاً أن أتعرف من خلاله إلى صديق عُمرٍ له، هو محمد الخنيفر، الرسام المتألق إبداعاً، والإنسان الخلوق جداً هو الآخر، وهو مبدع شخصية كاريكاتيرية أعطاها اسم «سلطانة»، ذاع سلطانها وانتشر على صفحات مجلة «سيدتي»، منذ صدورها (1981) تحت رئاسة تحرير دكتورة فاتنة شاكر، وكان حضور (سلطانة) ذا تأثير في انتقاد السلوك المجتمعي، خصوصاً الذكوري. كان لطف الراحل، وأسلوبه الودود، يفتحان له القلوب بلا تردد. أدرك هذا جيداً، ليس بسبب معرفتي به فحسب، بل كذلك مما سمعت أيضاً من غيري. الطيب زاك، الصحافي المغربي والناقد المسرحي، كثيراً ما حدثني عن هذا الجانب، فهو واحد من أولئك الذين عرفوا سعد الدوسري عن قرب، وقد أسهم، منذ البداية، في تعميق الصداقة بيننا، إذ كان قلم الطيب زاك ينقل لقراء «العرب»، كل يوم جمعة، عبر صفحة «أسبوعيات الثقافة»، مشاهد من معارض الرسم، أو النحت، أو مما يُعرض في مسارح «الويست إند»، أو دور العرض السينمائي بالعاصمة البريطانية. كان سعد الدوسري يرافق الطيب زاك في بعض تلك العروض، من منطلق اهتمامه الثقافي، وكانت تجمعنا، أحياناً، أمسيات ما بعد العمل في أحياء لندنية اتخذت سماتها العربية مبكراً، مثل «ماربل آرش»، أو «كوينزواي»، أو «إيرلس كورت». أما الصديق الأقرب، الذي رافق سعد الدوسري طويلاً، وأخلص الوقوف إلى جانبه طوال أيامه الأخيرة فهو صادق طعمة، الرسام العراقي المتميز، والفنان التشكيلي المبدع، إضافة إلى خليل عيتاني، المصوّر القادم إلى لندن مع أوائل طيور لبنان المهاجرة من بيروت.
يأتي أناس إلى الدنيا، فيعيشونها كما أغلب الناس، بكل حلوها، أو مرّها، قدر استطاعتهم، إنما يظل معظمهم، لمن يعرف مزاياهم عن قرب، ويرى سيماهم في وجوههم، كما الغرباء عنها، فإن أزف الرحيل، تراهم أيضاً يغادرونها من دون كثير صخب، كأنما يقول واحدهم للأحباء والصِحاب، ممن خلّف وراءه، ها أنذا أغادركم قبل أن أُثقل عليكم، سعيداً بما قُسِم لي، تماماً كما سعدت بصحبتكم ما أمكنني. سعد الحقباني الدوسري، كان واحداً من هؤلاء. تصعد الروح إلى السموات العُلى، تعود إلى بارئها، ويبقى، دائماً، من بعدها ما يفوح حول أحبائها، وكل الذين عرفوها، مِنْ عطر ذكراها. يرحمك الله يا سعد، ويُصَبِّر أحباءك كلهم، إذ يفتقدونك في يوم عيد حزين.