ملايين يونيو الحزين

ملايين يونيو الحزين

ملايين يونيو الحزين

 صوت الإمارات -

ملايين يونيو الحزين

بكر عويضة
بقلم - بكر عويضة

عشت اللحظة. كنت هناك. مئات آلاف العيون تنتحب حولي. أمواج بشر تتدافع، موجة تدفع السابقة لها. تخيلت أن الثانية تريد اللحاق بالأولى. أخطأت. كلا، إنها تصر أن تسبقها. حتى مساء 9 يونيو (حزيران) 1967 لم يساورني ريب أنني سوف أعود إلى قطاع غزة عن طريق حيفا، أو يافا. ستحملني باخرة من الإسكندرية إلى ميناء فلسطيني تحرر من مُحتل إسرائيلي اغتصب وطني. كان ذلك قراري المشترك مع خليل، صديق الصبا، الطالب المُجِّد في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، الذي كان دائم التحذير لي من نتائج عدم انتظامي في دوام كلية التجارة، بسبب انشغالي أغلب الوقت في اجتماعات اللجنة التنفيذية للاتحاد العام لطلاب فلسطين، إلى جانب طلاب محترفين للعمل السياسي، مثل تيسير قبعة، وشريف الحسيني، وحسين أبو النمل، وغيرهم. الثامنة مساء ذلك اليوم ذاته، انهار كل شيء. بين تصديق ما كنا نسمع، لأن الذي كان يخبرنا بحقيقة ما وقع من فواجع الهزيمة، هو جمال عبد الناصر نفسه، لا أحد غيره، وبين استفظاع ما حصل، دوّى في الغرفة صمتٌ يصيب بالصمم.

تبادلنا نظرات حائرة، لكنها كانت تصدع بسؤال مرعب؛ هل حقاً ضاع كل شيء؟ أفقنا على ضجيج هتافات تخترق الفضاء خارج غرف المدينة الجامعية؛ حيث كنا نسكن. سارعنا نلتحق بالمسيرات. بقينا حتى الهزيع الأخير من ليل التاسع على جسر روضة المَنيّل، غير قادرين على الوصول أبعد منه بفعل التزاحم الشديد. أطل صبح العاشر، يوم ذروة الغضب المصري المُصِرّ على استمرار جمال عبد الناصر رئيساً، رغم أن الرجل أصر على تحمل عبء كامل مسؤولية الهزيمة، واحتلال جيش إسرائيل كل سيناء، وكل قطاع غزة.
هل حقاً خرج المصريون بأعداد بلغت ملايين الناس، ما بين ليل التاسع، وطوال يوم العاشر من شهر يونيو 1967 الحزين، ترفض تنحي جمال عبد الناصر؟ نعم حصل. ونعم، تكرر المشهد في عواصم ومدن عربية عدة أيضاً. لكن، لماذا السؤال الآن؟ باختصار، لأن خصوم ناصر؛ خصوصاً داخل مصر ذاتها، الذين لم يرُق لهم إصرار الأغلبية على بقاء عبد الناصر في الحكم، كي يتحمل مسؤولية إعادة بناء الجيش، واسترجاع ما احتُل من الأرض، مثلما أقر أنه المسؤول عن الهزيمة، هذا الفريق، ومن سار على النهج ذاته، يواصل إلى اليوم، بعد نصف قرن و3 أعوام، ترديد الزعم أن أجهزة النظام، وتحديداً الاتحاد الاشتراكي، هي من ساق الناس سوقاً، وفرض عليهم الخروج، رغم إرادتهم، بعدما ملأت بهم شاحنات تتبع القوات المسلحة، وحملتهم إلى القصر الجمهوري بضاحية القبّة، لأجل فرض بقاء ناصر زعيماً. تلك محض مزاعم، ليس من دليل يوثق صدقيتها. الغرض الأساس منها هو استمرار الاغتيال السياسي لزعيم لم يعد حياً، ولم يبق من نهج حكمه شيء أصلاً، فلِم الإصرار على توجيه طعنات تشكيك في فصل أساسي من فصول زعامته، رغم أنه تحمّل المسؤولية كلها بشجاعة تُسجل له؟ أتفق هنا مع منطق الواقع، كما عبّر عنه مقال للدكتور مأمون فندي - «الشرق الأوسط»، عدد الاثنين 8-6-2020 - القائل إن تحميل عبد الناصر وحده كامل مسؤولية هزيمة 1967 ليس موضوعياً. قول منصف تماماً.
في المقابل، يثير الاستغراب إصرار جناح ناصري متشدد على رفض الإقرار بوقوع هزيمة أساساً، والزعم أن ما جرى كان مجرد «نكسة». ردد أنصار هذا الفريق، منذ مسيرات الملايين يومي 9 و10 يونيو، القول إن مصر سوف تنهض من جديد، ما دام أن النظام الثوري مستمر، حتى لو استمر احتلال الأرض عشرات السنين. كلا، الأسطع من أي إنكار هو أن هزيمة نكراء وقعت في وضح النهار، ولم تزل مصر تتجرع بعضاً من مرارات جوانب عدة ترتبت عليها، فيما يعاني العالم العربي؛ خصوصاً في فلسطين، انعكاسات ما بقي من آثارها. في طريق عودتنا إلى السكن الجامعي من مسيرات رفض التنحي، جلسنا، خليل وأنا، عند حافة تمثال «نهضة مصر»، للفنان محمود مختار، النحات المصري الكبير، ذي الحضور العالمي، تبادلنا بضع نظرات مبللة بدمع كان ينبع من قلب موجوع. سلّمنا بواقع يقول إن العودة إلى قطاع غزة المحتل، حتى عن طريق سيناء، ثم معبر رفح، باتت صعبة أيضاً. كم هو مؤلم أنها، بعد 53 عاماً، لم تزل كذلك!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ملايين يونيو الحزين ملايين يونيو الحزين



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 20:03 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 08:02 2016 الثلاثاء ,01 آذار/ مارس

جورج وسوف يستقبل أحد مواهب"The Voice Kids" فى منزله

GMT 02:49 2017 الجمعة ,06 تشرين الأول / أكتوبر

وصفة صينية الخضار والدجاج المحمّرة في الفرن

GMT 14:30 2017 الخميس ,05 كانون الثاني / يناير

صغير الزرافة يتصدى لهجوم الأسد ويضربه على رأسه

GMT 10:56 2021 الثلاثاء ,23 شباط / فبراير

إذاعيون يغالبون كورونا

GMT 12:44 2020 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

الريدز ومحمد صلاح في أجواء احتفالية بـ"عيد الميلاد"

GMT 07:32 2019 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

نيمار يقود باريس سان جيرمان ضد نانت في الدوري الفرنسي

GMT 00:59 2019 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اتيكيت تصرفات وأناقة الرجل
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates