النمل وجبروت الفيل

النمل وجبروت الفيل

النمل وجبروت الفيل

 صوت الإمارات -

النمل وجبروت الفيل

بكر عويضة
بقلم - بكر عويضة

فوجئ صديق، قبل أسبوع، بسرب نمل يهاجم المنزل، فلم يضق ذرعاً بالأمر، بل هرع إلى أقرب بخاخ قاتل للحشرات المنزلية في متناول اليد، وأحس بارتياح إذ توارى مشهد النمل من مرأى البصر. صباح اليوم التالي، ساور الصديق إحساس بالانزعاج عندما اكتشف أن النمل لم يختف تماماً، فعاود الكَرّة مستعيناً بقاتل الحشرات، وإذ راح يلاحق كل نملة تحاول الهرب أخذ يردد أن مجرد القلق من فيروس «كورونا» كاف لأن يفسد المزاج. ضحى الاثنين الماضي، فوجئت بالصديق ذاته يهاتفني وقد أصيب بخوف واضح في صوته، بل أحسست أنه يصل حد الجزع، ولمّا استفسرت، سارع يوضح أن أسراب النمل تضاعفت، فإذا هي جيوش تصول في أرجاء المنزل، وما عاد ينفع معها رشاش البخاخ المطهّر، ثم صدع بالسؤال: ما العمل؟

حِرتُ بمَ أجيب، ثم خطر لي اقتراح الاستعانة بإحدى الشركات المتخصصة في تطهير المنازل من تسلل الحشرات الضارة إليها، سواء من داخلها، أو من خارجها، لكن الصديق سارع يذكرني أن الإغلاق المترتب على مقاومة انتشار وباء «كوفيد 19»، يحول دون الحصول على ذلك النوع من الخدمات خلال يوم أو يومين، وربما يتوجب عليه الانتظار مدة أسبوع كامل، يكون النمل خلاله قد التهمه هو نفسه. كدتُ أصاب بيأس شديد أنني أستطيع تقديم أي نصح مفيد للرجل، لولا أن جرس اقتراح رنّ فجأة، فسألت: لِمَ لا تجرِّب نوعاً آخر من المطهرات، أقوى مفعولاً، وربما أسرع تأثيراً، ألا يتوفر لديك أي منها؟ أجاب: بلى، لديّ، سوف أفعل، ثم أنبئك بما حصل. بعد أقل من ساعتين، اتصل الرجل ليبلغني، بارتياح بدا واضحاً، أنه استعان بقاتل جراثيم ذي لون أبيض، ومفعول سريع، إذ فور رش جحافل جيوش النمل الغازية برشاش ذلك البخاخ، فإنها راحت تتهاوى على أرض المنزل صرعى، كأنها أعجاز نخل فاجأتها رياح إعصار تسونامي، لم تحسب له أي حساب.
استحضر حديث صديقي عن البخاخ القاتل، ذي اللون الأبيض، على الفور، صورة حدث ضابط الشرطة ديريك شوفين، فيما هو جاثم بركبتيه، كأنه فيل، على رقبة المبطوح أرضاً، جورج فلويد، الذي بدا مثل نملة بلا حول ولا قوة بينما يتوسل السماح له أن يتنفس، وهو في الأساس مواطن أميركي كما الرابض على أنفاسه، ليس يميّز بينهما سوى لون جلد كلٍ منهما، فكلاهما إنسان، دمٌ، وروح، ولحمٌ، كل ما في الأمر أن أحدهما فاقع البياض، وثانيهما داكن البشرة. كم بشع، ومُرٌ، أن يوصف مخلوق، أو يُنادى، أو يُسمى، بلون جلده، هذا أبيض، وذاك أسود، هنا عرق أصفر، وهناك قوم من أصل هندي أحمر. يوثق التاريخ، زمناً بعد زمن، وقرناً يليه آخر، حقيقة تقول، ببساطة يفهمها كل ذي مُخٍ يبصر، وعقل يفهم، وقلبٍ يعقل، أن الشر متأصلٌ في بعضٍ من أبناء وبنات آدم وحواء، رغم أن الخير هو الفطرة الأصل في الإنسان. لقد حُسِم الأمر منذ اتضح الفارق بين رفض نفاق قربان قابيل، الذي اغتاظ فقَتل، بينما تُقبِّل صدق هابيل، كاظم الغيظ المقتول، إذ يقول لأخيه: «لَئِن بَسَطتَ إلي يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بباسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِي أَخَافُ اللّهَ رَبَ الْعالمينَ».
بوسع العقلاء، في كل زمان، وبأي مكان، أن يدركوا بلا كثير عناء، أو إرهاق للتفكير، أن ضمير المخلوق هو المنبع الأساس لكل سلوك يُقدم عليه الناس، سواء أقدموا على فعل الخير عن اقتناع ورضى، أو مارسوا الشر بفعل انصياع أعمى لما زُرع في رؤوس البعض، في جهات الأرض الأربع، من وساوس فكر ضال تزيّن شرور إيذاء الآخر المختلف. حقاً، لئن مات الضمير عند المخلوق، رغم كل ما في البشر من عوامل ضعف، ما الذي سوف يحول دون موت الخوف من الخالق ذاته، جلّ جلاله؟ لا شيء. لذا، منطق الأشياء يقول إن دوائر العنف لن تتوقف عن الدوران في كل مكان، وسوف يستمر ظلم من يظن أنه فيل، وأن كل ما عداه مجرد نمل يمكن له أن يَسْحقَ، متى وأنّى شاء. إنما، تأتي لحظة عدل ليست في حسبان الظالم، فإذا بنمل حق مسلوب يخترق جبروت الفيل المتجبر، حينئذٍ تدور على الباغي الدوائر.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

النمل وجبروت الفيل النمل وجبروت الفيل



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 13:56 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أجواء حماسية وجيدة خلال هذا الشهر

GMT 09:22 2020 الأربعاء ,01 تموز / يوليو

أجواء إيجابية لطرح مشاريع تطوير قدراتك العملية

GMT 13:28 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أجواء حذرة خلال هذا الشهر

GMT 21:40 2019 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

يتحدث هذا اليوم عن بداية جديدة في حياتك المهنية

GMT 08:30 2019 الجمعة ,18 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة تحضير بان كيك دايت شوفان سهل ومفيد

GMT 14:47 2019 الأربعاء ,19 حزيران / يونيو

فيفي عبده تردّ على منتقدي شكل حواجبها مع رامز جلال

GMT 18:22 2015 السبت ,06 حزيران / يونيو

صدور "حكومة الوفد الأخيرة 1950-1952" لنجوى إسماعيل

GMT 08:05 2015 السبت ,12 كانون الأول / ديسمبر

فلسطين ومفارقات حقوق الإنسان

GMT 08:09 2012 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

"بيجو" تحذر من انها لن تتراجع عن اغلاق مصنع لها

GMT 15:07 2017 الإثنين ,16 تشرين الأول / أكتوبر

أردنية تُنشئ مجموعة إلكترونية لتشجيع المرأة على النجاح

GMT 19:43 2020 الجمعة ,11 أيلول / سبتمبر

زلزال بقوة 4.3 درجة يضرب جزر الكوريل في شرق روسيا

GMT 07:51 2019 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

الجنيه المصري يرتفع أمام الدولار بنسبة 10.3% منذ بداية 2019

GMT 14:09 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

إليسا تعود لإحياء الحفلات في مصر وتلتقي بجمهورها

GMT 10:49 2019 الثلاثاء ,08 تشرين الأول / أكتوبر

"تويوتا" تعدل أحدث نموذج من سيارتها التي يعشقها الملايين

GMT 06:15 2019 الأحد ,14 إبريل / نيسان

هاني سلامة يفقد الذاكرة في مُسلسله الجديد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates