المثقفون هم صفوة المجتمع، ونخبته المؤهلة بسلاح العلم والمعرفة والفكر النقدي الذي لا يقبل المهادنة مع الجهل والتجهيل، وطمس الحقيقة عن الناس، وتزييف الوعي، وتغليط العقول.
ومع ذلك، فالمثقفون أنماط وأنواع، بحسب ميولهم الفكرية، ونزعاتهم المذهبية، ناهيك عن انتماءاتهم السياسية.
هناك مثقفون اختاروا طواعية، الانتماء للأحزاب السياسية؛ سواء لأحزاب السلطة الحكومية، أو للأحزاب المعارضة لها، بصفتهم مناضلين، يترشحون للانتخابات، من أجل تمثيل الحزب في المؤسسات التشريعية والتنفيذية؛ من هنا يستثمرون؛ معارفهم، ومهاراتهم، وجميع ما أوتوا من كفاءات؛ كلما اقتربت، أو حلت معركة الانتخابات التشريعية-البرلمانية، من أجل التواصل الفعال مع الناخبين والناخبات، وإقناعهم بوجاهة البرامج الانتخابية لأحزابهم، ويبذلون الجهود المضنية من أجل استمالة الكتلة المصوتة.
وهناك فريق آخر من المثقفين؛ يمكن الاصطلاح عليه بأنه نمط مغاير تماما؛ غالبا ما يفضل من البداية؛ النأي بذاته عن الخندق الحزبي؛ ويوثر عدم الانتماء لأي كيان، أو تيار أو اتجاه؛ بحجة أن المثقف، أكبر من أن يحدد في إطار، أو يسلك في مذهب فكري ضيق، أو يحسب على منحى سياسي يتم رسم معالمه الكبرى، وخطوطه الحمراء سلفا من لدن أجهزة وطنية، وفي تجاربنا السياسية المغربية، نعثر على بعض الأمثلة لكبار المثقفين المغاربة الأفذاذ، ممن فضلوا مغادرة السفينة الحزبية، والاتجاه صوب المعرفة والكتابة والإبداع، لأنهم وجدوا هناك آفاق رحبة، وفسيحة، للحرية وإثبات الذات.
إننا لانقصد من خلال هذا القول، النيل من الانخراط في الأحزاب السياسية؛ أو تبخيس نضال المثقفين من خلال الواجهة الحزبية؛ ولا يخف التأثير الايجابي والنوعي الذي يمكن للمثقفين ممارسته في العمل السياسي؛ من أجل قيادة سفينته نحو بر الآمان؛ كما أننا لا نريد توزيع الثناء على المثقفين اللامنتمين للأحزاب السياسية؛ فتلك حقوقهم الأساسية المكفولة بموجب المواثيق الدولية والوطنية لحقوق الإنسان؛ والتي لا ينازعهم فيها أحد، بل نسعى هنا إلى التركيز على وظائف المثقفين ومهامهم، ومسؤولياتهم التاريخية، خلال العمليات الانتخابية المصيرية التي يتقرر بموجبها مستقبل الناخبين والمقاطعين على حد سواء، وسنسلط الضوء أكثر على النمط الثاني من المثقفين الذين لا يرون في المؤسسات الحزبية فضاءً ملائما لممارسة عملية التغيير المأمول؛ من أجل غد أفضل للوطن وللمواطنين والمواطنات .
هذا النوع الثاني من المثقفين ينقسم هو أيضا قسمين كبيرين؛
قسم يحصل لديه التردد والتذبذب ساعة حلول الانتخابات، بين المشاركة في أطوارها؛ وبين مقاطعتها؛ وهو عادة ما يحاول ممارسة مساءلة نقدية للحملة الانتخابية، وبرامج الأحزاب السياسية ويرتئي عادة، اتخاذ القرارات المناسبة، بعد غربلة المنتج الذي تقدمه الأحزاب؛ وخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ التي يعرضها المرشحون والمرشحات لاسم أحزابهم؛ أما القسم الثاني من المثقفين، فهو الذي فقد الأمل في الانتخابات التشريعية، ويئس من ثمارها ونتائجها، ولم يعد يؤمن بجدواها وفائدتها، واعتنق المقاطعة مذهبا ومنهجا...
إن النقد في الحقيقة لا يجب أن يتوجّه لأولئك الذين يربطون موقفهم من الانتخابات التشريعية والمشاركة فيها، بحصول الاقتناع لديهم ببرامج الأحزاب السياسية وخطاباتها؛ إن التردد والتذبذب خلال الحملة الانتخابية، يمكن القبول به، وتسويغه، والتماس الاعذار لأصحابه، لاسيما حين تتشابه البرامج والأفكار والوسائل والخطب، ويكثر القول والشعارات الجوفاء، وينعدم الفعل والتطبيق، لكن الذي لا يمكن فهمه واستيعابه، وتحليله واستنتاج أبعاده، هو ميل بعض المثقفين الشديد، نحو المقاطعة الشاملة لمجريات الانتخابات، والغياب الواضح عن مسرح الحملات الانتخابية، وتركهم المواطنين يواجهون خطابات المرشحين الواعدة والغامضة والحالمة، وسلوكات بعضهم-دون تعميم طبعا-المخلة، والمتناقضة مع المقتضيات القانونية، ليطلوا بعد صدور نتائج تلك الانتخابات، بأقلامهم السوداء، وقد غمسوها في محابر القتامة الحالكة؛ لاسيما إذا فاز فيها بعض من يناصبونه الخلاف الايديولوجي أو المذهبي؛ فيصبح حالهم مثل حال من أفنى عمره في لعن الظلام، ولم يكلف نفسه عناء إيقاد شمعة؛ ولو للحظة!!!
هذه الوضعية السلبية، لمستها فيما قرأت، وسمعت، بعد إعلان نتائج انتخابات 2011، حين كتب بعضهم ممن يُحسبون على تيار المثقفين التقدميين والحداثيين، أن ذلك الحزب ما كان له ليتربع على تلك المقاعد، لولا الجهل والأمية اللذان يتفشيان في المجتمع، هذه التفسيرات القريبة من الأسطورة، يمكن القبول بها لو كانت صادرة عن أميين، لكن مع الأسف خاض فيها المتنورون من المجتمع..
لكن الأسئلة الممضة في هذا السياق :
أين كان أؤلئك المثقفون اللامنتمون على حد زعمهم، حين كان المواطنون يغطون في جهلهم؟
ماذا قدمنا بصفتنا تلك – النخبة المثقفة-، للشعب من أجل مساعدته على حسن الاختيار؟
هل ساندنا منظمات المجتمع المدني من أجل نشر الوعي الانتخابي، وتربية المواطنين على إجادة الاختيار، والقدرة على المفاضلة بين البرامج والأحزاب والمرشحين ؟
المؤسف حقا، هو أن بعض أولئك المثقفين– دون تعميم الحكم والقول _ قد يَئِسوا من العملية الانتخابية، ومن الفعل الحزبي، وباتوا لا ينتظرون شيئا مذكورا من الانتخابات، ومن إفرازات صناديقها؛ لذلك، حين تصدر النتائج التي تفاجئ بعضهم، وتقض مضجع بعضهم الآخر، يشرعون في استدعاء قواميس الذم والهجاء والسخط ضد الجميع، ناخبين ومنتخبين، ضد الأحزاب والمؤسسات، فلا يزرعون في الناس إلا القنوط والتشاؤم والنفور..ولايقوون مع الأسف الشديد على اقتراح البدائل والحلول للناس.
المثقفون الحقيقيون، الذين يصرحون بأنهم غير منتمين حزيبا، وأنهم يناصرون الفكر الحر المستقل، يجب في نظري، أن يظلوا منتمين للفئات العريضة من الشعب؛ من المواطنين والمواطنات، منتسبين لمعاناتهم اليومية، مع القهر والظلم وغياب العدل والتمييز على أساس الجاه والمال والنفوذ..
المثقفون الصميمون -من صميم المجتمع-؛ هم الذين يغادرون أبراجهم العاجية، التي يصعدونها حين تأتيهم الأحلام بغتة، من أجل الإنصات لنبض الفئات الواسعة والعريضة من شرائح المجتمع، وهم الذين يهبون أحياز كبيرة من أعمارهم وأوقاتهم من أجل توعية الناس، وتعريفهم بحقوقهم، وواجباتهم، لاسيما في مثل هذه المناسبات، حين يختلط على كثير منهم الحابل بالنابل، ويصعب عليهم المفاضلة بين البرامج والأصوات والوعود...
المثقفون غير المنتمين حزبيا، مطالبون بقول الحقيقة للناس كما تبدو في الواقع المعيش، بدون تلوينها ايديولوجيا أو مذهبيا، ومطالبون بالتواضع أمام جهل العوام وأميتهم، وليسوا مأمورين بأن يصيبوا المجتمع بعدوى تشاؤمهم الدامس، ونفورهم من الممارسات والسلوكات اليومية، هؤلاء المثقفون، عادة ما نراهم رهائن في سجون بعض أفكارهم البالية والمتحجرة، لكن المثقف التنويري والعقلاني والتحرري كما يقول المفكر علي حرب، ليس " هو الذي يحيل الأفكار الخصبة...إلى مجرد معلومات يرددها على شكل محفوظات، وإنما هو الذي يقيم علاقة نقدية مع ذاته وفكره، على نحو يتيح له أن يتحول عما هو عليه" .
ما أحوج منظمات المجتمع المدني، وهيئاته، لإسهامات مثقفينا المتنورين، بنور آهات المواطنين والمواطنين؛ في الحواضر والأقاصي البعيدة، في المدن الكبرى كما في البوادي النائية، وليس بأنوار الايديولوجيات المغلقة؛ التي عفا عنها الزمن، ولم تعد مجدية في مواطن ظهورها وولادتها...المثقفون المواطنون، والمثقفات المواطنات، ليسوا هم الذين يجيدون فعل النقد اللاذع والساخر والسلبي، لأحوال المجتمع، واختيارات أفراده، بل هم القادرون على الارتقاء بتفكير الناس، وقراراتهم المصيرية، والذين يؤرقهم حال الناس ويبحثون ليل نهار عن حلول للمشاكل المزمنة.
المثقفون الحقيقيون الذين يحملون بين جوانحهم آلام الشعوب وآمالها، يخاطبون الناس على قدر عقولهم، باللغة التي يفهمونها، فلا إبهام ولا إغماض في العبارات والألفاظ، ولا إغراق في الايديولوجيات، والتعالي المعرفي والفكري.
على المثقف كناشط اجتماعي أو كشاهد على ما يحدث بحسب المفكر علي حرب "أن يتحمل المسؤولية وأن لا يتخلى عن المهمة النضالية، فهو مسؤول بالدرجة الأولى عن طرح الأسئلة على نفسه، بعد كل ما حصل من تعثُر أو فشل أو إخفاق للشعارات والمشروعات" .
أستاذ التعليم العالي مؤهل