القاهرة ـ وكالات
استطاع عدد من المخرجين الشباب في مصر خلال ثمانينيات القرن الماضي تجاوز التقاليد الإنتاجية التي كانت سائدة، وصنعوا بعدساتهم سينما جادة تستلهم مضامينها من الشارع وحياة البسطاء من الناس ضمن ما عرف بتيار "الواقعية الجديدة"، وبقي بعض تلك الأفلام علامة فارقة في السينما العربية.
ويناقش كتاب "سينما الثمانينيات.. طريق مفتون بالواقع" -الذي صدر مؤخرا ضمن سلسلة "آفاق السينما" التي تصدر عن وزارة الثقافة المصرية- مفهوم "سينما الطريق" في تلك الفترة من خلال استعراض تحليلي لستة عشر فيلما، تتحدث عن الطريق بشكل أو بآخر.
ويقول مؤلف الكتاب الناقد السينمائي حسن حداد إن أفلام الثمانينيات في مصر أسست لتيار سينمائي مهم في تاريخ السينما، هو "تيار السينما المصرية الجديدة"، وقدم رموز هذه الموجة تجارب وأفلاما مغايرة، لم تعهدها السينما المصرية من قبل، وفيها ذاتية وحميمية وتعكس قضايا مجتمعية حساسة تهم المواطن.
ومن أبرز مخرجي هذا التيار: محمد خان وخيري بشارة وعاطف الطيب وداود عبد السيد، الذين شاركوا في تقديم أعمال فنية تنتمي إلى مفهوم "سينما الطريق" الواسع، التي تدعو للثورة والتحرر من قيود المجتمع، وتدعو أيضا للتغيير والبحث عن أسلوب آخر للحياة يتناسب مع الظروف الجديدة التي طرأت في المجتمع.
وعلى سبيل المثال -كما ورد في الكتاب- يصور فيلم "طائر على الطريق" (إنتاج 1981) للمخرج محمد خان، شخصية سائق سيارة أجرة غير قادر على الانتماء الشكلي للمجتمع، ورغم التناقضات التي يحدثها الواقع، فإن البطل يسقط في النهاية في طريق المتاهة، وأصبحت المتاهة كأنها طريق!
ويؤسس خان في فيلمه "نصف أرنب" (1982) مفهوماً آخر للطريق وهو المال كقوة مسيطرة على سلوك الفرد في بنية المجتمع الجديد، حيث يتناول رحلة حقيبة تحوي نصف مليون جنيه، منذ خروجها من البنك وحتى ضياعها في النيل، ومن خلال هذه الرحلة تبرز لنا أحداث مثيرة وشخصيات كثيرة.
وفي فيلم "العوامة 70" (1982) يقدم المخرج خيري بشارة اللامبالاة بوصفها طريقا، حيث يناقش أزمة جيل بأكمله، بل يُدينه بشدة من خلال جميع النماذج البشرية السلبية التي قدمها بجرأة، وإصرار على عدم خلق أي تعاطف مع شخصياته لدى المتفرج.
ويقدم المخرج داود عبد السيد في فيلم "المماليك" (1984) نموذج الصداقة بوصفها طريقا لمواجهة مجتمع الصفقات والملايين. ويحاول صاحب "الكيت كات" البحث عن المنطق النفسي والاجتماعي وراء تصرفات شخصيات هذا المجتمع، إنها نظرة لا تسير وراء الأحكام الأخلاقية على السلوك البشري، بل تبحث وتتفهم الدوافع.
أما فيلم محمد خان "خرج ولم يعد" (إنتاج 1984) فهو يقدم التغيير بوصفه طريقا، واليأس قد يقترح طريقا آخر للحياة، من خلال بطل الفيلم الذي ظلمته المدينة، فبحث عن السعادة والاستقرار، وذهب إلى الريف واستقر فيه عكس ما يجري في الواقع.
ويلجأ المخرج رأفت الميهي في فيلمه "للحب قصة أخيرة" (1984) إلى استخدام الشعوذة طريقا، يجمع في نفس الوقت بين الواقعية المؤلمة والجمال، ويقدم إدانة صارخة للمعتقدات الخرافية، ويدعو إلى الحلم بمستقبل خال من الخرافة والوهم.
وفي المقابل يدعو المخرج عاطف الطيب في فيلمه "الهروب" (1990) إلى المواجهة المباشرة للممارسات الخاطئة، التي يعيشها الواقع المصري والعربي بشكل عام، وهي بالتالي تمثل الطريق الذي يوصل إلى علاقات اجتماعية ومشاعر إنسانية صحية، أما الهروب فهو طريق يؤدي إلى الموت.
ويناقش المخرج داود عبد السيد في فيلمه "البحث عن سيد مرزوق" (1990) أربعة عوالم مصرية: عالم السادة الذين يملكون كل شيء ويحميهم القانون، وعالم المطارين الخارجين على السادة وقوانينهم، وعالم البسطاء القابعين في منازلهم، وأخيرا عالم المتمردين المشاغبين، الذين يواجهون بقوة وشجاعة، ويؤكد أن العزلة لن تؤدي إلى التحرر.
ويؤكد المؤلف في خاتمة كتابه أن الإبداع في صناعة السينما يتجلى في تلك "الطرق" الأجمل، الموازية لطرق الحياة الإنسانية، كأننا أمام حياة مقترحة، نتفادى فيها ما يصيبنا في الواقع.
حكت سينما الثمانينيات الحياة كما هي، بلا زيف أو ادعاءات أو نهايات سعيدة. ونزلت كاميرات محمد خان وعاطف الطيب وعلي بدرخان وخيري بشارة ورأفت الميهي وغيرهم إلى الحارات والشوارع، وأصبح أبطال الأفلام من الهامشيين ومن قاع المجتمع في رؤى سينمائية تنشد التغيير، وإنْ بطرق مختلفة.
أرسل تعليقك