واشنطن ـ وكالات
جمع هذا الكتاب الفريد ثلاثة أسماء، المؤلفان المتحاوران وكاتبة التقديم. فأما الرجلان المتحاوران فأولهما ميدين، فنان الراب الفرنسي الجنسية، الجزائري الأصل، المسلم الديانة، له عدة ألبومات، أبرزها ألبوم "لا تخف". كما أنه معروف بجولاته في المدارس والثانويات والجامعات الفرنسية، محاضرا ومتحاورا حول الحضور الإسلامي بفرنسا.وثانيهما، الكاتب الفرنسي باسكال بونيفاس، مدير معهد البحوث الدولية والإستراتيجية (إيريس-فرانس. أورغ) وهو معروف باختياره الإلحادي العلماني، ومن أشهر كتبه "المثقفون المزورون" (بكسر الواو). وأما الاسم الثالث في الكتاب، فهو لكاتبة التقديم إيستير بن باسة، المفكرة اليهودية الفرنسية المعروفة ببعض مواقفها المخالفة للصهيونية.
والكتاب فريد لأنه حوار مطول، أو حوارات حرة ومنظمة، بين فنان مسلم ومثقف ملحد، يسعيان معا لكسر الصورة النمطية لفريقين اثنين يمثلانهما، فريق الشبان المسلمين بضواحي المدن الفرنسية، وفريق الملحدين الرافضين للإسلام والخائفين منه، وتذويب المخاوف والشوائب وهدم الحواجز الوهمية التي تحول دون تفاهم الجمعين.
وحالف التوفيق المتحاورين في اختيار عنوان مناسب وجذاب، وكان الفنان ميدين قد استلهم هذا العنوان من كلمة افتتاحية سبق أن ألقاها البابا الأسبق للكنيسة الكاثوليكية المتوفى جان بول الثاني عند إلقاء كلمة تنصيبه على الكرسي الرسولي. وأبدع ميدين أغنية تحمل العنوان ذاته، وهي قطعة فنية تدافع عن الأجيال الفتية من أبناء المسلمين والعرب الذين يعتبرون أجانب ودخلاء لدى كثير من الفرنسيين المتشددين رغم أنهم ولدوا في فرنسا وشربوا ماءها وأكلوا طعامها وتنفسوا هواءها وتكلموا لغتها.
الكتاب إذن لقاء بين تعبير فني يتجلى في موسيقى الراب، وتعبير فكري علمي يتجلى في علم الجيوإستراتيجيا، ولذلك يفتخر ميدين منذ البداية بفضل هذا الفن عندما يسأله بونيفاس عن هذا السلاح الفريد فيقول "الراب فن الفقراء وكان دوما وسيلة المعارضة السياسية والأيديولوجية الظالمة، وبدل طلقات الرصاص، نستعمل طلقات الكلام. وهي طلقات موجهة كذلك للذهنيات الشابة من أجل أن تنمو وتنفتح، وتخرج من قوقعتها وقعودها" مضيفا أنه "فن يتغذى من المعرفة والتلاقح الفكري والثقافي، ولولا هذا الراب المثقف الواعي ما تيسر لي الحوار معك".
ويتجول الحوار بالطرفين في قضايا متعددة ومتشابكة، فالمفكر العلماني يسأل ميدين عن فنه ودينه وإخوانه في الدين، وإخوانه في المواطنة الفرنسية، والفنان المسلم يسأل المفكر عن السياسات الفرنسية تجاه المسلمين والمخاوف الحقيقية والمزيفة. المحور الثابت للسجال الطويل هو الوجود الإسلامي في فرنسا، ومشاكله وتعبيراته، والأطراف المتدخلة فيه، والمؤثرة فيه، وسواء داخل فرنسا أو خارجها، كالانتخابات الرئاسية والتشريعية والمحلية، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والتنظيم المؤسساتي للمسلمين.
تغذية المخاوف
يتفق المتحاوران على أن المخاوف هي مصدر تغذية ما شاع تسميته الإسلاموفوبيا، وهي آفة التخويف من الإسلام والمسلمين وشيطنتهم، سواء كانت مخاوف صحيحة قائمة على واقع لا دافع له، أو مخاوف مصطنعة ليس لها أساس تستند إليه.
بونيفاس يعتبر أن المتدينين الإسلاميين المتشددين يقدمون هدية مجانية لصناع المخاوف، فالإسلاموفوبيا عنده ليست هي رفض الإسلام باعتباره دينا، ولكنها رفض لأحد مظاهر التعبير الديني أو التدين لدى طائفة من المسلمين يستغلها الرافضون والخصوم لتضخيمها وإثارة جو نفسي رهيب حولها، ثم تعميم ذلك على المسلمين أجمعين، وتقديم الصورة المقيتة لجميع الفرنسيين.
ويميز بونيفاس بين صور متعددة للتدين الفردي والجماعي تتداخل فيها عدة عناصر توجد في جميع الديانات، ولكن صناع التخويف يحتاجون إلى مشجب لتبرير موقفهم من الإسلام ووضع جميع المسلمين في سلة واحدة بناء على قاعدة "ليس في القنافذ أملس". ويقدم لهم المتزمت الهدية المنتظرة في التعامل مع المرأة مثلا ليقول صناع الإسلاموفوبيا وتجارها للناس "انظروا.. ألم نقل لكم؟ إن المسلمين جميعا يفعلون هذا، إنهم متشابهون.. وهذا هو الإسلام".
ويتوسع بونيفاس في تحليل اللعبة المتبادلة بين الطرفين، فيذكر أن المتشدد يحتاج بدوره للإسلاموفوبي حتى لا يسأل عن تصرفه، ويترك التهمة توجه إلى الإسلام ويرتاح من محاسبة الضمير، ويقول لنفسه "مهما فعلت فلن يرضى عني هؤلاء، فلماذا أغير سلوكي وأراجع أمري؟".
أما ميدين فيلقي باللائمة على السياسيين والإعلاميين الذين يستغلون المخاوف والأعمال المتشددة لبعض المسلمين، ليصبغوها بصبغة إثنية، ويهاجموا الوجود العربي والإسلامي في فرنسا والغرب، و"إذا كان بعض االمسلمين المراهقين يقومون بتصرفات غير مقبولة، فإن أصل المشكل ليس في الجنسية التي انحدروا منها، ولكن في البيئة الاجتماعية التي أحاطت بهم، فالمشكل اجتماعي وليس إثنيا".
والتقى الكتاب مع فرصة سياسية سانحة تجلت فيها لعبة المخاوف بلا خفاء، إذ وفرت لحظة الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2012 التي خسرها اليمين وربحها اليسار، مختبرا حقيقيا لدراسة الأمر. ورأى بونيفاس فيها كيف تهرب السياسيون الفرنسيون الأساسيون من المشاكل الحقيقية كالأزمة الاقتصادية، وصعود قوى إقليمية دولية جديدة وتراجع قوة الغرب وما يطرح ذلك من رهانات وتحديات، وتلاعبوا بمشاعر الناخبين الفرنسيين حين عزفوا جميعا على وتر الخوف من الإسلام والمسلمين والعرب المهاجرين وأبنائهم، ليس من أجل القضاء على تلك المخاوف الوهمية، ولكن من أجل تغذيتها والركوب عليها.
وقارن المتحاوران بين مواقف الفرقاء السياسيين في الانتخابات السابقة تجاه المسألة الإسلامية، فوجدا أن الجميع توحد ضد الجبهة الوطنية الفرنسية المتطرفة ضد المسلمين في انتخابات 2002، ثم ابتدأت لعبة سحب البساط من اليمين المتطرف بتبني طروحاته وسرقة أسلوبه واختطاف الأصوات المتعاطفة معه، ثم وصل الأمر إلى ذروته القصوى في انتخابات 2012 حين صار الحزب الخاسر والحزب الرابح يمينيين أكثر من اليمين إذ كان الفارق بينهما ضئيلا بسبب تشابه الخطاب والقضايا.
من الإرهاب إلى الربيع العربي
يتوقف بونيفاس متأنيا أمام الحراك العربي الحالي، ويسجل بقوة أنه مرحلة تاريخية فاصلة في حياة الأمة العربية والإسلامية، وفي المسار العالمي المقبل. ويعتبر الباحث الفرنسي أن عقدا من الزمن سبق الثورات العربية أدخل فيه العرب والمسلمون في قفص الاتهام بإلصاق صفة الإرهاب بهم بعد سقوط العدو الشيوعي.
وكان ذلك خطأ إستراتيجيا في نظر بونيفاس وضعفا في التفكير البعيد. أما الآن فقد برهنت الشعوب العربية على أنها قادرة على أخذ زمام الأمور بيدها وتقرير مصيرها بنفسها، واختيار البناء السياسي الديمقراطي الذي يناسبها، ووضع حد لزمن إكراههم على الديمقراطية بالجيوش والطائرات والدبابات.
بونيفاس وجدها فرصة للكشف عن بعض الصفحات المطوية في الفكر الجيوسياسي والجيوإستراتيجي لدى الغربيين، إذ ظل يدافع دائما، وهو العلماني الصرف، عن تشخيص الظاهرة الإرهابية والغوص في جذورها وأسبابها، وسط معارضة شديدة من المخالفين الذين اتهموه بمحاولة شرعنة الإرهاب بالبحث عن أسبابه، واتهموه أيضا بأنه صديق العرب.
لم يكن الإرهاب، وفق بونيفاس، سوى عملة سُكّت في المختبرات الأمنية الكبرى، للإبقاء على الإنفاق العسكري المرتفع الذي يصب نهاية الأمر في جيوب صناع السلاح وتجاره "فهل يستوي التهديد السوفياتي السابق بترسانته العسكرية الرهيبة بتهديد إسلامي ليس في يده إلا بضع قنابل يدوية وأسلحة خفيفة؟".
الربيع العربي في نظر الفنان والمفكر له تداعيات جيدة على وضع الشباب المسلم بالضواحي، إذ يتيح لهم تنظيم أنفسهم بأنفسهم والتحكم في مستقبلهم والوعي بقضاياهم الحقيقية، وقطع الطريق على المتاجرين بملفاتهم من السياسيين والإعلاميين.
في تقديم الكتاب، اعتبرت إيستير بن باسة أن هذا الحوار المطول سابقة في السجال الفرنسي، إذ أنه ما خطر ببال أحد أن يقبل باحث أكاديمي رفيع المستوى وفي تخصص دقيق بالمشاركة في تبادل فكري وفني مع فنان راب مسلم، فلا شيء يقرب بين الرجلين وفق الظاهر.
ولكن التجربة كانت ناجحة في نظرها، لأن المتحاورين قدما شيئا يستحق القراءة والإعجاب، فابتعدا عن المجاملات والشكليات وغاصا في القضايا الجوهرية الحساسة دون أن يتنازل أحدهما للآخر، فما جدوى حوار هادئ مجامل لا يستفيد منه القراء ولا تستفيد منه فرنسا بأجمعها.
وقد كان من الممكن أن يبقى بونيفاس في مركزه العلمي وصومعته الفكرية بعيدا عن صداع الرأس، وشهب التدافع الأيديولوجي والسياسي، وكان من الممكن أيضا أن يستمر المغني في إنتاج ألبوماته وبيع أسطواناته، دون أن يقحم نفسه في متاعب توجيه الفتيان وتأطيرهم. ولكن الرجلين ملتزمان بشيء مشترك ونبيل: إنه تغيير الذهنيات في المجتمع بالكلمة العالمة والمطربة معا، وحين يتلاقح العلم بالفن تحدث الأعاجيب.
ودافعت بن باسة عن دور الكلمة في التغيير حين ردت منتقدي هذه التجربة الذين استصغروها بحجة أن الواقع أكبر من كلمات المفكر والفنان، فقالت "إننا لا نملك إلا الكلمات لتحريك عوالم متباعدة متشاكسة، وقوات التدخل والغازات المسيلة للدموع لم تبرهن حتى الآن، على قدرتها وفعاليتها في معالجة المشاكل الاجتماعية".
وهذا الكتاب، في نظر بن باسة، لا يعطي دروسا، وعلى كل قارئ أن يعصر منه شرابا يراه في صفحة من صفحاته، وأهم ما فيه هو بساطة الرجلين وتبادلهما الأفكار، فذلك مثل باهر للتواضع النادر الذي يجعل القارئ متمسكا بيقظته العقلية وحسه النقدي، وعدم الاستسلام مطلقا للسهولة والسطحية.
وإذا كانت المفكرة اليهودية قد أثنت على هذه التجربة وتمنت أن تستفيد منها فرنسا خصوصا والغرب عموما، وهو يتعامل مع جزء صار أساسيا فيه، ألا وهو الإسلام، فإن الرسالة ينبغي أن تعم الجميع في هذا العالم الصغير، فهذا الكتاب يعلم العلمانيين والإسلاميين أجمعين أنه لا مناص من الحوار وتبادل الأفكار بصراحة ووضوح وإصرار، وترك المجال لها لتنتشر بين الناس فيختاروا منها ما يروق لهم، فكثير من الناس لا يعرفون مناط الاختلاف بين الفريقين، وتحرير المناط كما هو معروف في أرقى العلوم الإسلامية، علوم أصول الفقه ومقاصد الشريعة، علم ثاقب ومنهج ناجح في تنوير المتخالفين وجمهور الناس، حتى يقبل من يقبل عن بينة ويخالف من يخالف عن بينة.
غير أن الشرط الأساسي في كل هذا هو ابتعاد المتحاورين، إسلاميين وعلمانيين، عن التشدد والتسيس، فالتشدد آفة نفسية لا علاقة لها بالدين ولا بالعلمانية، والتسيس آفة الذين يستغلون الدين والعلمانية معا لأغراضهم الحزبية الضيقة ويضيقون ذرعا بالمصالح العامة للأوطان والإنسان.
أرسل تعليقك