بيروت ـ وكالات
نها رواية الأحلام الضائعة، بل رواية الضياع بامتياز والاستدعاء لكل ما غاب ورحل، "صورة وأيقونة وعهد قديم"، كما يتضح من عنوانها رواية قائمة على التركيب، تركيب مستويات السرد بشكل تاريخي وجمالي تخوض عبره سحر خليفة في الكشف عن شخوص وأمكنة تتداخل لتحكي قصة النضال الفلسطيني، هذه الرواية الحائزة على جائزة نجيب محفوظ التي تنظمها الجامعة الاميركية بالقاهرة، والتي تعتبر الجائزة العربية الأولي التي حصلت عليها خليفة رغم حصولها على عدة جوائز أخرى مثل جائزة "ألبرتومورافيا" الإيطالية، وجائزة "ثربانتس" الإسبانية، تحكي سيرة مدينة القدس قبل هزيمة 1967 عبر بطلها الرئيس إبراهيم وقصة حبه الأشكالية من فتاة مسيحية تدعى مريم، فالحدث يبدأ مع استرجاع إبراهيم لذكريات الماضي، ودمج ذلك مع حاضره.وأن كانت سحر خليفة في هذه الرواية لا تبتعد عن مسارها الروائي في سائر أعمالها الأخرى، هي صاحبة رواية "الميراث" التي كشفت عن فساد السلطة الفلسطينية، وأيضا رواية انصار الـ "سحر خليفة" مشروعها الروائي في التأريخ لكفاح الشعب الفلسطيني، وتجربته المريرة في داخل الأراضي المحتلة، وفي الخارج حيث الأوطان البديلة.
وعبر الكتابة عن ثنائية المرأة والوطن تسعى خليفة في مواءمة حقيقية ومتفاعلة، لتثبت في نصوصها أن الطريق الوحيد لتحرير الوطن هو تحرير كيان المرأة، المحكوم ببروتوكولات وهمية وكاذبة، تعيقها أن تكون كائنًا مستقلاً له خصوصية التجربة والكينونة، وبهذا الشأن تعبر سحر خليفة بقولها "أنا كأديبة فلسطينية يشغلني الإنسان الفلسطيني في علاقته مع ذاته، ومع المجتمع، ومع السلطة، وأدب المرأة عمومًا إكتسب إضافة مهمة، حيث لم يقتصر على صراع الأنثي مع المجتمع، بل أيضًا مع المحتل، من هنا يمكن القول إن المناخ السياسي والقضية الوطنية أسهما في إكساب الرواية الفلسطينية خصوصية لا تتوافر لمناطق أخري في عالمنا العربي."في رواية "صورة وأيقونه وعهد قديم" تحضر هذه الثنائية منذ السطر الأول في الرواية، فتواجهنا الكاتبة بالمرأة والوطن معًا في توحد يصل حد التمازج قائلة عبر لسان البطل "إبراهيم": مريم كانت أجمل ذكري، أغلى تاريخ، أحلى صورة، كانت في الغربة تحضرني فأحس بروحي تسحبني لأجواء القدس .. وكنت أنا مثل الدوري لي أجنحة وعيون من ذهب ومرايا تكتشف العالم من حولي ومرايا القدس إلى القدس الآن قدس أخرى، قدس التاريخ!بهذه المواجهة المباشرة ندخل إلى عالم الرواية وفي ذهننا صورتان، أو صورة واحدة بوجهين هما "مريم، والقدس". ولعله من الوضوح الكافي أن أيا من الصورتين كفيلة بإحالة القارئ إلى عالم من الأسئلة والتخيلات إذ ثمة بوابات تاريخية واسعة، وأحداث وذكريات بإمكاننا التنبؤ بها قبل دخولنا إلى عوالم الرواية، فهل أرادت سحر خليفة أن تبني مشروع روايتها على هذا الجذب المباشر للقارئ بإلقاء طعم سري وخفي منذ السطر الأول يتكون من مدينة وامرأة، فالمدينة هنا ليست أي مدينة إنها القدس العربية، التي هودت شيئًا فشيئًا، والمرأة هنا "مريم". لكن أية "مريم" هي وأي الرموز حملت، ترى مريم المجدلية، أم مريم العذراء، أم مريم أخرى وليدة زمن الرواية المكسور، والمرهون لإتفاقات الفساد، والدعاة، والكاذبين، حيث لا معجزات حقيقية، ولا أنبياء..
تبدأ الرواية على مستوى السرد عبر شخصية البطل "إبراهيم" الذي يحيلنا منذ البداية إلى قصة حبه المستحيلة مع "مريم" الفتاة المسيحية التي تختلف معه في الديانة والإنتماء والفكر، و"مريم" هنا هي المعشوقة التي يهيم بها إبراهيم لكنه يحس نحوها بفروقات كبيرة نتيجة هشاشته وضعفه، هي القادمة من البرازيل وتتكلم اللغات الأجنبية، وانتقلت بين البلدان، وهو الساكن في قريته ولم يستطع مغادرتها إلى أي مكان آخر، لكن علاقة الحب بينهما تستمر وتتوطد إلى أن تحمل مريم ويتخلى عنها إبراهيم ويهجر الوطن إلى بلدان أخرى، إلى الخليج، وأوروبا وأميركا، وينتقل بين امرأة وامرأة يقول: "مرت سنة وتلتها سنين وأنا أتغير وأنتقل بين العواصم والتنظيمات والشركات، ثم التحقت بشركة أميركية للبترول نقلتني من الكويت إلى لندن ثم روما، وهناك تزوجت أميركية وتطلقنا بعد سنتين، وتزوجت نمساوية، ثم إيفلين، ثم سوزي، ثم عربية حين انتقلت إلى السعودية."
• هجنة نفسية
البطل إذن الذي لم يكتفِ بالتخلي عن مريم والتنكر لحملها بات في حالة شك في حقيقة أن يكون الحمل منه، وتجرأ على الإنسحاب من أي موقف والرحيل بلا أدنى محاولة لانقاذ مريم، هذا إلى جانب تنقلاته العديدة والمتنوعة بين البلدان والنساء وفق مصالحه وأهوائه، مما يدفعنا إلى القول إنه يعاني من تهجين نفسي، وحالة من اللإنتماء تقوده إلى كل هذا التخلي في أبشع معاناته، فالبطل في البداية يقدم نفسه على أنه أستاذ لغة عربية، ويكتب الشعر والقصص وكل طموحاته أن يصبح كاتبًا، وعلى الجانب العائلي نجده متعاطفًا مع والدته أمام تخلي الأب عنها وزواجه بأخرى، إذن ليس هناك أية مقدمات سلبية توحي بكل هذا التدهور السلبي واللأخلاقي، لكن سير الأحداث يتتالى في صخب حاد، لإظهار سلبية البطل وانتهازيته وجبنه لكن ثمة تناقض غير مبرر تقع فيه الكاتبة حين تدفع بالبطل في شكل حدث مفاجئ وغير مقدم له إلى العودة إلى القدس والبحث عن ابنه من "مريم".
وقد ظهر لنا البطل منذ البداية بأنه يشك في حقيقة أن يكون الطفل ابنه، إن هذه العودة التي أتت متأخرة أكثر من ثلاثين عامًا لم تكن مبررة، إلا بإحساس إبراهيم بالعجز والوحدة بعد تقدمه بالسن، ويقينه بأن كل الأموال لن تشفع له في غربته وأنه سيظل بلا وريث.
أمام ثنائية المرأة والوطن التي طرحت في بداية الرواية تبرز هنا ثنائية أخري هي ثنائية الفقد المجسدة بغياب الوطن وضياع الحبيبة، ومع عودة البطل "إبراهيم" إلى القدس، نعود إلى مواجهة أخرى مع الثنائية الأولى، فهناك القدس بكنائسها ومساجدها وصلبانها وقساوستها، وهناك "مريم" الحبيبة المفقودة التي سكنت إحدى الكنائس وصارت "ماري أيوب" ذاك الاسم المزدوج، ماري هنا الاسم المسيحي، يجاوره "أيوب" المعروف بصبره والذي لم يستطع بوجهه العربي أن يحتفظ باسم "مريم" كما هو.
أمام هذا التداعي في الذاكرة والأحداث والأشخاص نجد البطل "إبراهيم" المثقف الثري، و"العربي المتأمرك" يسعي جاهدًا للقيام بغسيل حقيقي لأمواله ولداخله أيضًا. يسعي "إبراهيم" إلى إقناع الإبن بالرجوع إليه، عن طريق إغرائه بالمال مرة، والتشديد على أنه كاتب ومثقف مرة أخرى يقول: "ألم أقل إني كاتب، لكن الدنيا أخذتني والسياسة وبلاد الناس، ولو لم أضع في السياسة وبلاد الناس لكنت الآن أعظم كاتب".
هنا تبدو محاولة البطل زعم الكتابة والإبداع، ليس إلا محاولة أخرى للتمسك بشيء يثبت من خلاله ذاته ويعيد إليه هويته المفقودة التي ضاعت منذ مغادرته للقدس، وخسارته لمريم وابنها، هذا الابن الذي يدعي إنه يعالج الناس بالقوي الروحية عبر فن "الريكي" والتنويم المغناطيسي وطاقات روحية أخري.
• أنبياء ومدينة
لا تتوسل الرواية الصور الدينية، وأسماء الأنبياء إلا للتركيز على البعد الإيجابي للشخصيات فهناك إبراهيم – مريم – وسارة شقيقة إبراهيم – ثم مريم مرة أخرى في اسم ماري أيوب، وكأن الأسماء هنا تحمل دلالات ترميزية للإيحاءات التاريخية المخزونة في الذاكرة، حيث ترديد الاسم يكفي لاستدعاء حالات وحكايا غابرة. تتجاوز الرواية معناها العادي والمألوف إلى حيز الإنزلاق التاريخي، فإبراهيم اسم يحال إلى الأنبياء "ومريم" اسم لسيدة مقدسة أنجبت نبيا. لكن في المقابل نجد "إبراهيم" هنا رمزًا للتخلي، والطفل أي ابنه أتي نتيجة علاقة محرمة وابنه هنا يخلف عالمه الخاص في دمج وهمي بين الزهد والشعوذه، والحقيقة والخيال، المحبة والأنانية، وكأنه نبي بلا نبوة، يتوهم علاج الناس وشفاءهم بطاقاته الخارقة، ويعجز عن التواصل مع أبيه ومحاورته بتجرد وطلاقه. وفيما النتيجة تكون شخصيته اختزال للموروث القديم الحاقد على الأب الذي تخلى عنه وأنكره وهو طفل، مع تظاهره بالقوه أمام الناس وزعم قدرات فوق العادة لإجتذابهم، وكأنه بذلك ينفي إحساسه بالنقص والدونية لنشأته يتيمًا، ومجهول الأب.
تقدم الرواية أيضًا نماذج فلسطينية أخرى، هناك الفلسطيني العادي، الذي رفض المغادرة متمسكًا بالبقاء فوق أرضه، لكان هذا النموذج يظل مضمر الحضور، أمام طغيان شخصية "الفلسطيني المركب" وليد الحضارة والتماذج الهجن.
"صورة وأيقونة وعهد قديم" رواية لا يمكن قراءتها بمنظور الحدث الروائي العادي، إذ يستلزم لقارئها إستحضار البعد التاريخي الذي سعت إليه سحر خليفة من خلال شخصياتها المرسومة بدقة، فالصراع هنا صراع مدينة عربية مسلوبة، ترصد الكاتبة من خلالها نماذج حقيقية موجودة، لتكون منها نصًا مفتوحًا على إحتمالات شتى. الفلسطيني الصامد، يقابله الراحل والضارب بكل القيم، الفلسطيني الذي حول الحجر إلى سلاح يقاتل به عدوه يقابله من يتاجر بحجارة فلسطين، وإزاء هذا كله نقول عن "مريم" بأنها رمز للقدس المخذولة والمسلوبة، فمريم هنا انكفأت على نفسها في دير، وغيرت اسمها وشكلها، في حين أن المدينة أيضًا لا تزال تهوَّد يومًا بعد يوم، وتتغير معالمها وآثارها.
إنها رواية الضياع والأسئلة المطلقة المفتوحة علي زمن جريح وشعب منفي، وكما لو أن هذه الأسئلة معروفة الإجابات مسبقاً لذا تركت خليفة نصها مفتوحاً ليس على هزيمة أبطالها فقط بل علي قدر القدس وشعبها. (خدمة وكالة الصحافة العربية)
أرسل تعليقك