القاهرة ـ وكالات
خلدت "الشمندورة" اسم مؤلفها محمد خليل قاسم، بمجرد ظهورها في العام 1968. فمنذ هذا التاريخ وهي موضع احتفاء من قراء ونقاد ومؤرخي الأدب، وصار يشار إليها باعتبارها مأثرة أدبية لا يصح تجاهلها عند التعرض لتاريخ الرواية العربية أو عند تتبع تطورها. وقد يكون مفيدا قبل النفاذ إلى عوالم الرواية. التوقف قليلا للإجابة على أسئلة من نوع: لماذا هذه الطبعة الجديدة للرواية؟ من هو محمد خليل قاسم؟ وما هي الظروف التي أحاطت به وبها وقت كتابتها؟وقد أعادت الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر إعادة طبع الرواية، إزاء الطلب المتزايد عليها، وتعذر رجوع الأدباء والنقاد والباحثين إليها.
أما عن المؤلف.. فقد ولد محمد خليل قاسم بقرية قتة النوبية في عشرينيات القرن الماضي، وبالتحديد في الخامس عشر من يوليو/تموز عام 1922. والده كان مزارعا اضطرته الظروف التي تلت التعلية الثانية لخزان أسوان في العام 1933 إلى هجر الزراعة والاتجاه إلى مزاولة التجارة، في عام 1939، سافر محمد خليل إلى أسوان ليؤدي امتحان المرحلة الابتدائية، وكانت هذه هي أول مغايرة يقوم بها لأرض النوبة، ولما نجح بتفوق وأخذ استكمال دراسته الثانوية، أرسلته أسرته إلى خاله المقيم في القاهرة والتحق بمدرسة القبة الثانوية، وبعد أن نال الثانوية، التحق بكلية الحقوق جامعة فؤاد الأول، إلا أن ميوله الأدبية أدت إلى تعديل مساره التعليمي فانتقل من كلية الحقوق إلى كلية الآداب.
أما عن الظروف التي أحاطت به وبها وقت كتابتها، فقد كتب محمد خليل قاسم رواية "الشمندورة" في معتقل الواحات، ولأن الورق ممنوع هو وأدوات الكتابة؛ لذا اقترح عليه رفعت السعيد على سبيل المداعبة - كما ذكر - فكرة نسخ الرواية فصلا فصلا على ورق البفرة ثم تهريب ما يتم نسخه إلى الخارج. وكانت فكرة خرافية، فأوراق البفرة هي الأوراق التي يلفت فيها تبغ السجائر، والسجائر مسموح بها، لكن هذا الورق غاية في الرقة وضيق المساحة، لكن ما أخذ على أنه خرافة تحول إلى واقع متحقق. فكان ما يتم كتابته بقلم الكوبيا على أوراق البفرة كان يلف بعناية ويهرب إلى الخارج المعتقل من خلال الزائرين، وإلى الشابة ليلى الشال، التي تزوج منها د. رفعت السعيد فيما بعد. وخرج المعتقلون ليجدوا الرواية في انتظارهم، نشرها الفنان حسن فؤاد في سلسلة في مجلة "صباح الخير"، وحولها الكاتب محمود الشوربجي إلى مسلسل إذاعي بث عبر موجة إذاعة صوت العرب، وبسبب تحولها إلى مسلسل إذاعي.
إنها رواية خلدت اسم كاتبها في عالم الابداع الروائي، وهي روايته الوحيدة "الشمندورة"، لمن لا يعرف، جسم طاف فوق سطح البحر أو النهر أو المجرى، المائي المستخدم في الملاحة، ويكثر وجودها في الموانئ ومناطق رسو السفن، ولها أشكال متعددة، فإنه يراعي في شأنها الاتزان والثبات قدر الإمكان، وذلك بتثبيتها إلى القاع بواسطة جنزير به مخطاف أو ثقل كاف، حتى لا تتحرك من موقعها التي وضعت به، وتربط السفن والوحدات العائمة بمختلف أنواعها إلى الشمندورات لتأمين رسوها، وقد أصاب الدكتور صلاح السروي في دراسته القيمة، حينما وصف الشمندورة بأنها رمز كلي سابغ يحمل البنية الروائية ويحدد مراميها ودلالتها، وأنها كيان دلالي سيميولوجي محدد لوجود مادي وآخر معنوي.
أما من الناحية المضمونية فعرضت الرواية لمجتمع بأسره في مفرق مصيري، وهذا المفرق تواجهه المجتمعات الإنسانية، وإذا واجهته فهو محفوف بمخاطر كارثية أبسطها كارثة الاندثار، وهل هناك أكثر من أثرها النفسي على الفرد، وأبشع وقعا على مخيلة المجتمع من لتهديد بالاندثار المحتم؟ الفرد قاوم وتشبث، والمجتمع قاوم وتشبث. الفرد له احتياجاته ورغباته وأحلامه وذكرياته، فإذا تشبث فإنما يشبث بكيونته، ذاته، جذوره، والتربة التي منها نبت وعليها يعيش، والمجتمع له مقوماته وخصائصه، له شخصيته، وله تاريخه الموصول بثقافته وأساليبه التي كفلت له الحياة لقرون في مكان محدد عصمه من الذوبان، فإن تضعضعت هذه المقومات، وتبددت كل الخصائص، فكيف سيحتفظ التاريخ باتصاله؟ وكيف سيستمر؟ وأي مشروعية ستحتفظ بها الهوية؟!
ولعبت الطبيعة دورا محوريا في الرواية، وقد عني محمد خليل قاسم بالإشارة إلى مواطن الجمال في نوبة ما قبل التعلية الثانية لخزان سد أسوان، عبر عيني الطفل حامد، السارد المشارك في أغلب أحداث الرواية، ولعل ما بدأ به الفصل الثالث دليل قوي على الاهتمام الذي تولية الرواية للطبيعة بمفرداتها المتوافرة في البيئة المسرود عنها "كل شيء كان بهيجا وجميلا في قريتنا في تلك الأيام، فالنيل العجوز، وسواعد الرجال والنساء، والشمس المشرقة اللافحة قد كست الغيطان والشواطئ، بخضرة يانعة تتخللها مقاطع شتى من الألوان تبعث البهجة والتوثب، ونبات الترمس ينمو ويترعرع فوق الجروف المبتلة "والكشرنقيق" ينشر خضرته بين سيقان أشجار النخيل.. يزخرفها، موار أحمر وأصفر وأبيض هنا وهناك.. والنيل العالي تتلاطم أمواجه المراء الدسمة ويهدر كأنه حانق على نجعنا".
وعن المضمون الأرحب الذي شمل كل هذه المضامين وغيرها هو المضمون الاجتماعي، فقد قدم محمد خليل قاسم مجتمعا فريد السمات، وعني برصد تفاصيله الدقيقة، باعتبار أن السرد القصصي هو فن التعبير عن الكليات من خلال الجزئيات، لذا قدم مجتمع النوبة في أصدق صورة، فصور ناس النوبة كما هم بهيئاتهم وأسمائهم التي اعتادوها في مجتمعهم دونما إسراف أو تقتير، فنجد أسماء كـ "دارياسكينة"، "صالح جلق"، "برعي دولحظ"، تتجاور وأسماء من نوع "حامد"، "بكر"، "شريفة". والقرى والنجوع تذكر بأسمائها الحقيقية: "قتة"، "الدر"، "أبريم"، "كنوز"، "دابور"، "عافية"، "الكلابشة"، و"خوررحمة"، وتتعاضد وهذه الأسماء أسماء أخرى كثيرة متداولة في هذا المجتمع، أسماء الأشياء ونبات وأماكن كـ "العنجريب، سرير يصنع من جريد النخيل"، "الخرميد، العيس المخمر".
وبالراوية سرد فني لعادات أهل النوبة الاجتماعية المتصلة بدورات الحياة من ميلاد وسبوع وألعاب للصغار والكبار وزواج وموت، ومنها تناول حتى للتقاليد المنظمة لأساليب العيس والعمل والتبادل التجاري وعلاقات الناس بالنهر والأرض، كذا علاقات الرجل بالمرأة.. إلخ، بالنسبة للعلاقات من النوع الأخير يشير إلى واقعة من وقائع كثيرة تحتشد بها الرواية، تبرهن على قسوة الأطر التي فرضها المجتمع النوبي على هذه العلاقات، وهي واقعة تحرش سعدية بحامد في بداية الرواية تحرشا جنسيا، ومع أنها بررت له فعلتها بأنها "لعبة حلوة" فقد حذرته من أن يتحدث مع شخص عما فعلته معه، أكثر من هذا ملأت طاقيته بحفنين كبيرين من الحمص لتضمن سكوته، إن دل هذا التحرش، الذي انتقلب إلى استجابة وموافقة قبيل نهاية الرواية، على شيء فإنما يدل على ما يولده الكبت من تصرفات تستهدف إشباع الحاجات التي يحال بين الشخص وبين تلبيتها، ويفضح ما يمور داخل المجتمع المحافظ الذي يظن أقطابه أنه بمحافظته هذا يحمي عوراته بثوب سميك النسيج، وهو في الحقيقة نسيج مهلهل به من الخروق الكثير.
ويوضح محمد خليل قاسم أساطير وخرافات المجتمع النوبي وهي أساطير وخرافات الذين يعيشون على الفطرة، أغلب الأساطير متصل بأصل الخلق والظواهر الكونية وما بعد الموت، أما الخرافات فكثيرة، منها تصديق أن الجن هو الذي يوصل البريد، مع أن أفراد النجع جميعهم يرون باخرة البوستة وهي تذهب وتأتي بالبريد، ومنها خوف حامد وغيره من العفاريت، ورواج نشاط كل من فكيهة ضاربة الرمل والشيخ الشاذلي كاتب الأحجية، والدين عباءة تحتوى سلوك ناس الرواية باتباعهم لتعاليمه وشعائره وطقوسه، مثلما تحتوي هالة التوقير التي يحيط بها أهالي النجوع شيوخهم، حتى مع كون هؤلاء الشيوخ مسئولين عن تشكيل فرق لا تتحد.
ببراعة شديدة تمتزج الرواية في الفصل السابع عشر منها بين الأسطورة والخرافة والدين من خلال قصة "سيف بن ذي يزن" التي يقرؤها حامد أثناء شهر رمضان، ومنها يحث عن أصول النيل، ذلك الذي ينبع من الجنة، وتفسير لسر استعباد الساميين للحاميين، إنها غضبة نبي الله نوح عليه السلام، على ابنه حام، لأنه لما كشف عن عورته وهو نائم ورآها ولداه حام وسام، ضحك حام وسخر، في حين نهاه سام ونهره، وظلا على هذه الحال حتى ارتفع صوتهما فاستيقظ النبي وأدرك ما هما فيه، فرشق حام الذي لم يرع حرمته بنظرات غاضبة، ورفع يديه إلى السماء "رب.. لتجعلن وجه حجا مولدي أسود مثل القار"، على الفور بدأ وجه الولد يتحول، يربد ويغير ثم يسود، حتى أصبح لامعا مثل الأبنوس، ويدعو ربه دعوة أخرى "رب يا ذا الجلال.. اجعل أولاده جميعا سود الوجوه.."، أما الدعوة الثالثة فهي دعوة الاستعباد "وليكونوا جميعهم خدما عند سام وأولاد سام في الحال والترحال آمين". فيرد سام من خلفه "آمين".
الرواية واقعية، وواقعيتها مركبة استفادت من سابقتها النقدية والاشتراكية، أخذت منها أفضل ما فيها وطرحت عنها عيوبها، فخلت - من ثم - من التسطح والشعارية، النقدي في الرواية ذات طابع احتجاجي، والاشتراكي متصل بأماني المجتمع النوبي الفقير في الحصول على حقوقه وتطبيق قواعد العدالة، بشأنه في الجانب النقدي جنوح نحو الرصد والتحليل والتعرية والانتقاد، وفي الجانب الاشتراكي انتصار لكل ماهو إيجابي نبيل وإنساني.
رواية "الشمندورة" لمؤلفها محمد خليل قاسم صدرت طبعتها الجديدة بتقديم من الكاتب قاسم مسعد عليوة، وصدرت ضمن مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة في نحو 528 صفحة من القطع الكبير.
أرسل تعليقك