القاهرة ـ وكالات
تمثل رواية 'رجوع الشيخ' للمصري محمد عبد النبي المرشحة ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر إحدى الروايات النموذجية لمقاربة موضوع معضلة النص الروائي الأول، ويمكن اعتبارها المعادل الإبداعي لكتاب ماريو فارغاس يوسا 'رسائل إلى روائي ناشئ'.نقل لنا عبد النبي في هذه الرواية البكر بالتفصيل كل ما يمر به العمل الروائي من مآزق ومهالك من مراحله الجنينية إلى مراحله النهائية، حتى بدت وكأنها بطاقة سوابق الكتابة أو ما يعرف في مصر بـ'الفيش والتشبيه'.بعد قراءة خمسين صفحة من الرواية -الصادرة عن دار روافد المصرية- يقف القارئ عند ذلك الاضطراب وتلك الحيرة التي يظهر بها الراوي العاجز عن اتخاذ قرار بشأن الشكل الذي سيروي به حياته، فنفهم وقتها عبارة الكاتب إيتالو كالفينو، التي صدر بها عبد النبي نصه تحت عنوان 'تنبيه' 'ليس ثمة مكان أفضل لحفظ السر من رواية غير مكتملة'.ولكن مع ذلك الارتباك تتشكل الفضاءات وتظهر الشخصيات وتنبت الأحداث من الذاكرة التي يحاول بطل الرواية أحمد رجائي أن يستعيدها. سيرتان لجيلين مختلفين، سيرة الروائي وسيرة سميّة في عمل روائي ينجو بنفسه من قدر الانقطاع عن مواصلة نص بكر لازم الروائي مثل النحس.يعود بنا عنوان الرواية إلى كتب سابقة تحمل نفس الاسم، منها الكتب التراثية العربية الأيروسية والروايات الأجنبية، منها 'رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه' لابن كمال باشا وغيره من الكتب التي نحت نحوه، وهذا المؤشر في العتبة النصية سيجعلنا ندخل الرواية بأفق انتظار معين بحثا عن هذا الأيروسي، ورغم أن العنوان لم يحدد وجهة الرجوع، لكن التناص واضح.ويتفجر الأيروسي في هذه الرواية مرتبطا بكتابة الأوتوبيوغرافي، فالشخصية الروائية تعلن من أول سطر عن نيتها رواية حياتها: 'اتخذت قراري ولن أرجع عنه... سأشرع فورا في كتابة رواية حياتي'.ولئن كان هذا الأوتوبيوغرافي مزيفا ولا دليل على أنه حياة الكاتب نفسه فإن هذه الحيلة السردية ستفتح بابا لكتابة الأيروسي بذريعة كتابة الذات. فالأوتوبيوغرافي هو الفضاء النموذجي لكتابة الحميم، وهو ما نرصده في بعض مواطن الرواية، غير أن الأيروسي يتشكل في الرواية من خلال لعبة الانزياح في التلذذ بالبدايات وأعاد صوغ الرواية من جديد وتأجيل النهاية أو الانتهاء.خلافا لما يعتقد بعض الروائيين فإن 'الميتاسرد' أو الروايات الواصفة أو 'السرد النرسيسي' وهي مصطلحات تشير إلى نوع من الروايات التي تروي قصة كتابتها، ليست ابتكارا حداثيا ولا أصالة أسلوب، فسيرفانتس سبق الجميع إلى ذلك في نصه المؤسس للرواية الحديثة 'دون كيشوت'، ولكن هذا الأسلوب ما زال يلقى إعجابا من الروائيين العرب، ويستعملونه دون قدرة كبيرة على توظيفه.فنفس هذا الأسلوب يستعمله الروائي الأميركي بول إستر، الذي يبدو الروائي المصري متأثرا به خاصة روايته 'ليلة التنبؤ'، والتي أعاد عبد النبي رواية ملخص لها في 'رجوع الشيخ'، كما يستعين به الروائي ستيفن كينغ في بعض مؤلفاته مثل روايته 'ميزيري' أو 'الشيطانة' كما ترجمت بالعربية، ولكن كلا من إستر وكينغ تميزا في كيفية المحافظة على درجة التشويق والتوتر في النص الروائي رغم عالم الكتابة الخاص.فعالم الكتابة يبدو عالما مملا، وعلى الروائي أن يحول ذلك الفضاء النخبوي إلى فضاء عام يصلح لكل قارئ، وهذا ما نجح فيه بعض الروائيين الأميركيين مثل هنري ميللر وبول إستر وستيفن كينغ، لكن الروائي العربي لم ينجح إلى الآن في هذا الأسلوب.تشعرنا رواية محمد عبد النبي بأننا أمام ما خاف منه البطل من أن تتحول روايته إلى قص ولصق، فنحن أحيانا أمام مجموعة من الكليشيات مكررة، فمرة نحن مع 'ليلة التنبؤ' لإستر ومأزق الكاتب والكتابة، ومرة تطل علينا أحلام مستغانمي وهي تشتري دفترا أنيقا يحرضها على الكتابة، ومرة مع شخصية رواية تتحول إلى واقع يصارع الأبطال، فيطل علينا الروائي واسيني الأعرج ضاحكا بروايته 'أصابع لوليتا' ورواية 'الخشخاش' لسميحة خريس.وتستعيد الرواية عافيتها بعد الربع الأول من الرواية لتجد عالمها وشخصياتها بانتباهها إلى التفاصيل وإن تواصل حضور تراكم قراءات الكاتب وما شاهده من أفلام، حتى مثلت ثقلا بالرواية ظهرت بأسلوب استعراضي، كان الأفضل لو كان تناصا غير معلن لتتعدد مستوى القراءات من قارئ إلى آخر.وتبقى رواية 'رجوع الشيخ' مغامرة روائية تجعل من قصة كتابتها كل مغامرتها، ليبقى الكاتب يغير ويحوّر ويتراجع على امتداد الرواية، فمرة يقرر كتابة رواية على نمط بول إستر ومرة على شاكلة أغاثا كريستي ومرة رواية تستلهم التاريخ المصري. وهنا ينقل عبد النبي بذلك حيرة الروائي الشاب عندما يهم بكتابة نصه الأول فتنهض أمامه النماذج الروائية فيأخذه التيه إلى حيث يجب أن يقرر أو أن يقبر موهبته، فالكتابة عن الكتابة تمثل مغامرة غير محسوية العواقب مثل السير على رمال متحركة أو على أرض زرعت ألغاما لا تدري متى تغرق أو تتفجر.
أرسل تعليقك