القاهرة - وكالات
لم تفارق السينما الثورة وتوابعها منذ 25 يناير 2011 وحتى هذه اللحظة فعلى مدى عامين كاملين خرجت العديد من الأفلام التسجيلية والروائية القصيرة تحكي وتؤرخ للأحداث الجسام، من ميدان التحرير إلى مجلس الوزراء إلى محمد محمود.
لقد تابعت عدسات المصورين السينمائيين ما جرى يوماً يوم وكشفت الكاميرا عن تفاصيل ما خفي من إصابات وضحايا واستشهاد، وفي كل مرة ومع كل فيلم يخرج الى النور تُكتب سطوراً جديدة من التاريخ المجيد الذي صنعه الشباب والكبار والشيوخ والأطفال بالعرق والدم، ومع اختلاف العناوين والأفكار ووجهات النظر وزوايا التناول تظل الحقيقة هي العنصر الأوضح في جميع الكادرات.
آخر ما شاهدناه من الإبداع السينمائي للثورة كان فيلم بعنوان ‘حاضر مع المتهم’ سيناريو وإخراج علاء اسماعيل وبطولة أحمد سيد أمين، ولعله العمل الفني الأول الذي يهدي إلى شهيد الثورة الشيخ عماد عفت وتدور أحداثه بشكل رمزي حول شخصية الرجل أو ما يشابهه من شيوخ الأزهر الوسطيين الذين ابلوا بلاء حسناً خلال أيام الاحتدام والتضحية ومازالوا.
برغم عدم التصريح بأن بطل الفيلم الشيخ الأزهري المعمم هو الشيخ عماد غلا أننا لم نستطع الفكاك من هذه الافتراضية والخروج بالفكرة الى عمومية المعنى، حيث يوجد غير الشهيد الشيخ عماد عفت المئات من أمثاله يشبهونه ويشبههم، ولأن حدث الاستشهاد كان جللاً والإهداء الذي وضع في بداية تترات الفيلم كان موحياً فإن الربط جاء حتمياً ولكننا سنتجرد من هذا الإحساس ونتعامل مع أصل الحكاية المرتبطة والمنطبقة مع وعلى شخصيات أخرى كثيرة.
الفيلم يقدم لنا نموذجاً لرجل فاضل بزي إسلامي تقليدي يعرف به دعاة الأزهر الشريف، ومن النظرة الخارجية على الشخصية يدلنا المظهر على وقار معهود وانضباط في السلوك وملمح مهم من ملامح مكارم الأخلاق، حيث يظهر الشيخ في الكدر وهو يدفع بسيارة من الخلف تعطلت وسط الطريق وبداخلها رجل يحاول إدارتها، ثم ينطلق بها بعد أن يبذل الشيخ الأزهري جهداً في الدفع بهعا، ونلمح سريعاً صاحب السيارة وهو يمضي ملوحاً بيديه لمن ساعده.
يبقى الشيخ بعد هذا المشهد في مكانه متأملاً حال الناس ملقياً بنظرة عميقة عليهم وهم منصرفون إلى أشياء أخرى غير العبادة ودروس الدين ويندهش من تلك الهجرة الجماعية لبيوت الله التي خلت إلا من الكهول والقاعدين، وفي إشارة ذكية من كاتب السيناريو والمخرج يقرر الشيخ الفاضل النزول بنفسه إلى الشوارع والميادين للالتقاء بالمسلمين والتعرف على المتغير الجديد في حياتهم، باعتبار أن ما يسلكونه غير طبيعي ويستدعي الاهتمام.
وهنا نلحظ عظمة المسئولية الملقاة على كاهل الداعية المكلف بإصلاح أحوال البلاد والعباد، إذ لا تستقيم الدعوة بمجرد الإبلاغ عن الصلاة برفع الآذان وإمامة من يحضر متوضئاً لأداء الفريضة، وإنما المشاركة هي الأصل في إستبيان الأسباب ومعرفة الحقيقة وراء ما طرأ من تغيير مفاجيء، ينقلنا البطل أحمد سيد أمين الى أجواء الشارع وتأتينا الإجابة عبر إعراض نفر من المواطنين يستقل المترو وهو يرد يد الشيخ التي امتدت له بنفحة ما قُصد بها أن تكون عربوناً للتعارف فندرك ان التواصل أصبح صعباً في مرحلة تتسم الاستنفار والضيق.
لم تحتمل مدة الفيلم التي لا تزيد على ثمانية دقائق تعدد حالات الاستياء والنفور، لذا كان التكثيف هو اللغة الضرورية لبيان الحالة الدينية والاجتماعية وما آلت إليه الشخصية المصرية في ظل التشدد الأعمى بلا فعل حقيقي يبرره على أرض الواقع ويعطي لمن يزعمون تطبيق الشريعة حق الوصاية!
ثمة إشارات تليغرافية يرسلها الفيلم تنبيء بأن الشيخ الشهيد عماد عفت وأشباهه هم المغتربون في وطن تسيطر عليه ثقافة الاستئساد ولاستبداد ولو أن عفت قد فر من جهالة من قتلوه وظفر بالشهادة فإن من هم يشبهونه لازالوا على اغترابهم ووحشتهم.
تنتهي الأحداث نهاية مفتوحة توحي بالانتظار كـأن شيئاً سيحدث أو يجب أن يحدث يعيد للحياة توازنها الطبيعي فتنفتح كل الأطياف على كل الأطياف فلا يوجد مجال للسيطرة الفردية ولا حكم الحزب الواحد.
تمضي الدقائق الثمانية المقررة لزمن الفيلم وتبقى الدلالة حاضرة عنواناً للشخصية الأزهرية المتسقة مع تكوينها وفطرتها وتدينها السمح ويظل اسم عماد عفت هو الطافي على سطح الذاكرة وروحاً تطوف بكل ميادين الثورة.
أرسل تعليقك